أغلى هدية تلقيتها مؤخرًا هي صورتان بعث بهما قبل أيام الصديق العزيز طارق السامعي، المخرج الفنان الذي قامت "النداء" فنيًا بفضله، عام 2004.
أراد طارق أن يحقق طلبًا عزيزًا لي في خواتيم رمضان. أرسل صورتين نادرتين لاثنين من أنبل من عرفت؛ عبدالله المجاهد (أبو سهيل) وبشير السيد، رحمهما الله.
كنت أبلغت العزيز طارق بأن يبحث لي في أرشيف صحيفة "النداء" Anndaa Journal أو أرشيفه الخاص، عن صور للفنان عبدالله المجاهد وبشير السيد. بعد أيام حقق ما أردته.
في مطلع 2004 كان مشروع إصدار جريدة أسبوعية قد انحسم بعد تجربتين ثريتين في جريدة "الوحدوي" الناصرية، حيث تعلمت وتتلمذت على أيدي أساتذة أجلاء، أبرزهم الأستاذان عبدالله الخولاني وعلي السقاف، وفي جريدة "الأسبوع" التي أسسها ورأس تحريرها الزميل القدير حسن العديني.
في ربيع 2004 لجأت للفنان عبدالله المجاهد كي يصمم ترويسة "النداء". وكنت عرفته عن قرب في ربيع 98 عندما أوكل لي مهمة تحرير الإصدار الخاص بأربعينية فقيد الحركة الوطنية والناصرية الأستاذ أحمد طربوش سعيد.
كان الزملاء في "الوحدوي" قد استقروا على الاستعانة بـ"أبو سهيل" لكي يصمم الكتاب، الغلاف والأقسام، بما في ذلك ملحقا النصوص الشعرية والصور التي ترصد محطات من حياة أحمد طربوش. واقتضى ذلك تواصلي شبه اليومي مع أبو سهيل.
كانت تجربة استثنائية لي.
عبدالله المجاهد (النداء)
ذلك أن أبو سهيل، الفنان المرهف، تعامل بمنتهى اللطف والحنو معي خلال فترة إعداد الكتاب، واستطاع أن يوائم بين متطلبات الفنان ودواعي الإنسان! ذلك أنه تعامل مع شباب يحبونه ويقدرون مكانته كفنان تشكيلي كبير في اليمن، لكن الكتاب كان يخص "مناضلًا ناصريًا"، ما يعني متابعة قيادات التنظيم العليا، بمن فيهم أولئك الموكل إليهم مهام فنية ولوجستية تتعلق بحفل أربعينية الفقيد! كذلك صار المجاهد الفنان محل تقييم، وأحيانًا نقد، أساتذة و"مناضلين" ليس لهم أية صلة بالتشكيل، رسمًا أو نقدًا.
أتذكر تلك اللحظات العصيبة إذ يتلقى، من غير سابق موعد، ملاحظات على أعماله الفنية من قيادي مر بمقر الصحيفة في شأن حزبي أو إداري، فيجد أن من المفيد مد يد العون (النقد الفني) للفنان الذي تطوع مقابل مبلغ زهيد لإخراج الكتاب، ونفث الكثير من روحه في صفحاته، رسومًا وخطوطًا.
كانت أسابيع قليلة (7 أسابيع) أمكن للجنة تحرير الكتاب إنجازه، مدعومة من أعزاء في صحيفة "الوحدوي"، يتقدمهم علي السقاف الذي يعرف أبو سهيل، ويستطيع وقت أن نقف عاجزين في تنظيم الحركة، بما يساعد الفنان على تجاوز مطبات المناضلين.
في 2004 كان الأمر مختلفًا تمامًا؛ أبو سهيل في تجربة مختلفة معي: تصميم ترويسة لصحيفة مستقلة. هكذا احتضن مقر الصحيفة في عمارة الخير في الدائري الغربي، جوار جامعة صنعاء القديمة، لقاءاتي به. كان تلك بداية معرفتي بما يمكن وصفه "بواكير" مرضه؛ ذلك أن مقر الصحيفة يقع في الدور الخامس، وهذا يقتضي من أبو سهيل صعود الأدوار الـ5 كلما زار الصحيفة.
كان محبًا!
كنت أتعرف على الفنان والإنسان بشكل أعمق هذه المرة، بدون منغصات نقدية! كان المجاهد يزورني في المكتب لأنه "مستمتع"، فهناك الكثير من قفشات تجربة "الوحدوي"، والكثير من وعود "النداء"!
لم يمضِ وقت طويل إلا وكان طارق السامعي ثالثنا؛ فالترويسة على الورق صارت بروفة على جهاز الكمبيوتر، ونقشًا في القلب.
**
بشير السيد (النداء)
كانت الصورة الثانية لبشير السيد..! والحاصل أنني أمضيت 8 شهور (منذ بداية الخريف الماضي) بحثًا عن صورة خاصة لبشير في مكتب الصحيفة. لقد نهب أرشيف "النداء" في مطلع 2012، وبقي فقط الهارد الرئيسي في المقر (شارع الزبيري -جوار بن معمر للنقل)، ونجا بأعجوبة من النهب. وخلال الشهور الماضية بدا أن أرشيف "النداء" ليس وحده المتضرر، فقد أدت السنوات اللاحقة (2012-2022) إلى نزيف واسع في ذاكرة اليمنيين، وبينهم صحفيو "النداء" وطاقمها الإداري. لقد بحثت عن صور بشير عند الزملاء حمدي عبدالوهاب وبشرى العنسي، فما وجدت ضالتي، لأن كل واحد منهم فقد أرشيفه في السنوات العشر العجاف. وقد استعنت بالزميل حمدي للتواصل مع أسرة بشير، لكن الرد كان مخيبًا، إذ لا صورة له في المكتب أو أثناء عمله في "النداء"، رغم ثقتي أن هناك الكثير من الصور تجمعه بي وبزملاء في "النداء" خلال سنوات عمله في الصحيفة بدءًا من عامها الثاني (2005).
خلال عامين فقط صار بشير شخصية محورية في "النداء". فبداياته كانت واعدة! إذ إنه في أول يوم له في "النداء" طلبت منه متابعة خبر في حارة أكمة هائل، حيث السكان يشكون من شاب يرأس شلة بلطجية! كنت قد أقنعت بشير أن مشكلة الصحافة اليمنية هي غياب الاحترافية التي تأتي ـساسًا من التخصص. وهكذا كان!
في اليوم الثاني جاء الرجل مصطحبًا آخرين، يشكو من الصحيفة التي لم تكن منصفة! كنت مشغولًا صحبة أصدقاء، وبكل برود طلبت من الرجل أن يشرح وجهة نظره بهدوء في مكتب في الغرفة المجاورة، للزميل بشير.
سرت قشعريرة في أوصال بشير، إذ أسلم رقبته لرئيس عصابة بكل هدوء. والحق أن الأستاذ محمد المقالح كان اتصل بي قبل ساعة يطلب التطبيب على الرجل الذي يعرف أن المقالح صديقي. كاشفني بشير بعد 6 أعوام تقريبًا (في 2012) أنه كرهني لحظة طلبت منه بكل برود الجلوس مع الرجل ورفاقه، في المكتب المجاور! قال لي، ضاحكًا، إنه شعر بأنني أسلمه لـ"قاتل"!
في تلك السنوات كنت أسافر إلى بيروت والقاهرة وعمان ومدن أخرى عربية وغير عربية. كانت "النداء" قد استقر خطها التحريري وقواعد السلوك الصحفية، وصار وجودي من عدمه في صنعاء أمرًا هامشيًا، فيمكن لبشير أو جمال جبران أن يتولى الإشراف على العدد، فضلًا عن الزميل محمد الغباري الذي يتكفل بالصفحة الأولى.
بعد عودتي من سفر في إحدى المرات، اتصل بي أحد الكتاب المعروفين يشكو أن مقاله لم يُنشر، وأنه عرف أنني مسافر، مستغربًا تصرف الزملاء في الصحيفة! اعتذرت له سلفًا، وقلت له سأتابع الزملاء وأعود للاتصال به. طلبت المقال غير المنشور، واستمعت من بشير لأسباب عدم نشره، ثم بعد انصرافه ابتسمت. اتصلت بصاحب المقال وقلت له إنني قرأت مقاله، ووجدت أن قرار الزملاء كان صائبًا، لأن المقال ينطوي على تجريح بحق آخرين، ما يخالف "ميثاق شرف" الصحيفة. وزدت أن اعتذرت للكاتب ثانية، راجيًا منه تفهم قرار الزملاء.
كان بشير يتطور بشكل سريع، فضلًا عن شعوره بالامتلاء جراء عمله في "النداء". كان يشعر بالزهو إذ يصلني اتصال من رئيس منظمة أو تاجر أو مسؤول حكومي يشكو بشير الذي رفض استلام مكافأة منه لقاء عمله الصحفي! كان عليَّ متلطفًا أن أشرح للمسؤول أن بشير رفض "المكافأة" لأن الصحيفة تمنع استلام أموال من الغير.
خلال 3 سنوات صارت لدى بشير أهم شبكة مصادر أخبار في ما يتعلق بالجريمة وشبكات تهريب الأدوية والمخدرات في صنعاء وخارجها وصولا إلى الحدود!
صار مع الوقت عنوانًا للشغف… والتعلم.
بشير السيد مع أيوب طارش عبسي (من صفحة عبدالقوي ردمان الشيباني في فيسبوك)
في احدى زياراته لتعز فاجأني باتصال يعلمني انه سيزور الفنان القدير أيوب طارش لإجراء حديث معه.
فاجأني!
ليس مجاله ولا ميدانه.
في صنعاء أطلعني على المادة محررة فدهشت! ذلك أنه استطاع أن يخرج أسرارا لم يسبق لأيوب أن تحدث عنها، خاصة علاقته بالرئيس الاسبق ابراهيم الحمدي وقصة "النشيد الوطني". لاحقا كان لبشير الفضل في تعرفي بالفنان ايوب طارش وزيارته في منزله.
يحضر بشير دائما فمثله لا يغيب. لكنه في رمضان يحضر بكثافة ذلك بفضله وفضل الزملاء حمدي عبدالوهاب وعلي الضبيبي ومحمد العلائي وبشرى العنسي وهلال الجمرة وسعادة علاية وشبكة مراسلي النداء في المحافظات، وإسناد مستمر من الاساتذة المحامين نبيل المحمدي وهائل سلام؛ أمكن تحرير مئات السجناء ظلمًا وكذا اطلاق سراح لاجئين ومهمشين في مختلف المحافظات. كذلك كان عيد "النداء"، وبخاصة عيد بشير السيد، لا يكتمل إلا بتحرير المظلومين وما أكثرهم في بلادنا!