كان عمر "فرسان" 3 سنوات و9 أشهر حينما عاد والده، علي حسن الشعبي، قادماً من نيجيريا في زيارة قصيرة للوطن. وصل علي حسن الشعبي عبر ميناء عدن الجوي بتاريخ 19/4/1973 بموجب تاشيرة دخول رقم (ع/ق73) بتاريخ 17/4/1973 صادرة عن سفارة اليمن الديمقراطية الشعبية- القسم القنصلي بالقاهرة. "زيارة لمدة شهر واحد "سياحة" بموجب جواز نيجيري رقم 157952"، يؤكد ذلك في روايته لـ"لنداء" فرسان علي حسن الشعبي، وقد صار عمره الآن 37 عاما, كل ما يعرفه عن والده أنه كان مناضلاً وإعلامياً بارزاً.. وأنه "خرج ولم يعد" قبل 34 عاماً في عاصمة محافظة لحج "الحوطة". كيف اختفى ولماذا؟ السطور التالية تكشف بعضاً من جوانب القضية المثيرة الغامضة.
باسم فضل الشعبي
أول الطريق
وُلد علي حسن الشعبي في 15/3/1944، في نيجيريا، لأب يمني وأم نيجيرية. عاد به والده وهو لم يتجاوز الخامسة من عمره، إلى أرض الوطن، وتحديداً الى منطقة "وادي شعبـ" ناحية "طور الباحة" محافظة لحج. وفي قريته الوادعة رضع الطفل الصغير مبكراً معارفه الأولى من كتاتيب القرية على أيدي فقهاء أجلاء. ويحكي عنه أهل قريته أنه كان شغوفاً منذ صغره بالقراءة فضلاً عن كونه طاقة من النشاط والحيوية, لذلك لم يكتف الطفل بما تلقاه من معارف أولية في كتاتيب القرية، شأنه شأن عدد كبير من أبناء قريته الذين انخرطوا في النضال ومارسوا السياسة من قبله ومن بعده؛ إذ سعى بجهود ذاتية الى تثقيف نفسه من خلال مطالعة بعض الكتب والمجلات التي كان ينفق عليها القدر الأكبر من مصاريفه التي كان يبعث بها والده من نيجيريا، حيث كان اغترابه عن الوطن, قبل أن يتوجه علي حسن الشعبي الى مدينة عدن ومنها الى تعز. كان قد اختار طريق النضال والكفاح المسلح كما يشير إلى ذلك عدد من كتاباته الصحفية في عدد من الصحف الصادرة في تلك المرحلة وكما يحكي عنه رفاق دربه. بعد تفكير عميق وتأمل واسع لحق بعدد كبير من ابناء قريته حيث قرر الانضمام الى الجبهة القومية و كان عمره حينها 21 عاماً ليحصل على بطاقة عضوية برقم 741 بتاريخ 5/3/1965, وجد الشاب العشريني نفسه مبكراً في مدينة تعز حيث كان المكتب المركزي للجبهة القومية. ولما كان الشاب المتوقد حماساً يمتلك قدرات بارعة في الكتابة والخطابة، رتب له وضعاً مناسباً وفق رؤية قيادية تكتيكية تتناسب مع طموحاته وتطلعاته الإعلامية التي بزغت مبكراً. وفي تعز أسهم "الشعبي" في دعم الثورة إلى جانب رفاق الدرب من خلال الإشراف والتحرير لعدد من المطبوعات الإعلامية الصادرة من هناك، فضلاً عن كتاباته المتعددة لعدد من الصحف التي كانت تصدر في تلك الفترة عن جهات نضالية متعددة في الشمال اليمني. كان مؤمناً ايماناً قوياً بأن الحرية حق، وإن الحق لا يستعاد إلا بالقوة والكفاح المستمر. "إن مطلب الحرية حق أساسي مشروع لكل شعب يريد الحياة والحرية أبداً لا توهب؛ لأنها ليست صدقة ولا نافلة من النوافل، بل تؤخذ؛ لأنها حق، والحق دائماً يؤخذ ولا يعطى".
العبارة مقتبسة من مقدمة مقال كتبه المناضل علي حسن الشعبي لجريدة "الأخبار" اليومية الصادرة في تعز عن وزارة الاعلام والإرشاد القومي (العدد 689 بتاريخ 12/7/ 1967) بعنوان "ماذا تعني بريطانيا عندما تتحدث عن الإرهاب؟! ثورة شعبنا في الجنوب أقوى وأعتى من الإستعمار وقواته".
في إذاعة تعز
واصل المناضل علي حسن الشعبي كفاحه ونضاله عبر الكلمة والقلم، حيث كانت هذه الأداة في نظره لا تقل في دورها عن المدفع والرشاش. ففي الوقت الذي كان يلجأ فيه المستعمر البريطاني إلى بث الإشاعات المغرضة في صفوف المناضلين وقواعد حركات التحرر بهدف إضعافها والتأثير على معنوياتها القتالية، كان الشاب العشريني يتصدى -إلى جانب عدد كبير من المناضلين- لهذا النوع من القتال، عبر كلمات مدوية يرسلها تارة عبر أوراق الصحافة وتارات أخرى عبر أثير "إذاعة تعز" بعد أن أصبح مذيعاً رئيسياً فيها. "إن ثورتنا المسلحة في الجنوب اليمني المحتل التي انطلقت شرارتها الأولى عشية الرابع عشر من أكتوبر عام 63م ضد الوجود الامبريالي البريطاني وعملائه الأذناب في المنطقة, هي ثورة كل فرد من أبناء هذا الشعب، هي ثورة الفلاح والعامل والتاجر والطالب. إن هؤلاء جميعاً هم الذين فجروا الثورة وقدموا أرواحهم وأموالهم وقوداً لها وزيتاً يذكي أوارها ويشعل جذوتها الثورية. سر يا شعبنا في طريقك، طريق الثورة المسلحة، حتى يتحقق النصر لأهدافك مجتمعة, والله أكبر وكلمتك هي العليا ومصلحتك فوق الجميع". بهذه الكلمات كان علي حسن الشعبي يشعل حماس الجماهير ويوجه طاقاتهم نحو النضال وميدان المعركة عبر بيانات الثورة من أثير إذاعة تعز. وقد وجدنا بعضاً منها مكتوباً بخط يده. لقد كان دوره كبيراً في تلك المرحلة الحساسة من تاريخ الجنوب اليمني المحتل. هذا الدور الذي لعبه "الشعبي" دور المذيع اللامع أحمد سعيد عبر إذاعة "صوت العربـ" من القاهرة، إذ أن إشعال جذوة القتال وتحريك طاقات الجماهير وبث الثقة بين صفوفها ورفع معنوياتها القتالية، كانت أهدافاً سامية للإعلام والاعلاميين آانذاك.
في 13 يناير من العام 1966 أعلن عن دمج الجبهة القومية ومنظمة التحرير تحت مظلة واحدة أصبح اسمها "جبهة تحرير جنوب اليمن المحتلـ". وبحكم نشاط المناضل علي حسن الشعبي الإعلامي والصحفي، فقد وجد نفسه عضواً في الجبهة الجديدة وذلك في 14/3/1966. بحكم إيمانه الكبير حينها بدور الإعلام ومدى تأثيره، ظل "الشعبي" محتفظاً بموقعه كمذيع في إذاعة تعز حتى بداية السبعينيات. وفضلاً عن ذلك فقد عمل خلال تلك الفترة مديراً مالياً وادارياً لإعلام محافظة تعز قبل أن يقرر الهجرة إلى نيجيريا التحاقاً بأبيه الذي كان اغترب في عشرينيات القرن الماضي.
يقول ولده فرسان: "ترك والدي تعز في العام 1970 متجهاً. إلى عدن، ومنها إلى قرية شعب حيث كانت أسرته وأقاربه. وقد ظل في القرية لمدة عام وكان يتردد حينها على عدن ولحج لزيارة أقاربه وزملائه من المناضلين. بعدها قرر الرحيل إلى نيجيريا وكان ذلك في بداية العام 1971".
العودة إلى المجهول
مكث في نيجيريا عامين، ثم قرر بعدها العودة الى الوطن. ويضيف الولد الوحيد للمناضل علي حسن الشعبي، إذ أن الأكبر منه كانت فتاة هي الآن متزوجة ولديها عدد من الأبناء وتسكن قرية"شعبـ"، قائلاً: "وصل والدي الى أرض الوطن في 19 ابريل العام 1973 عبر ميناء عدن الجوي، ومنه توجه مباشرة إلى القرية لزيارتنا، حيث مكث عندنا ما يقارب أسبوعاً ثم أخبر الأسرة أنه ينوي أخذها معه إلى نيجيريا للاستقرار هناك وإنه سوف يسافر إلى الحوطة لإتمام معاملات السفر".
صبيحة اليوم التالي ودع "الشعبي" أسرته وأقاربه صوب مديرية طور الباحة. وفي ظهيرة اليوم نفسه كان قد وصل إلى الحوطة متوجهاً إلى منزل قريبه الذي يدعى أيضاً علي حسن الشعبي، والأخير كان مناضلاً بارزاً في صفوف الجبهة القومية أيضاً. وكان الإثنان قد عاشا طفولتهما معاً في القرية ثم في مدينة الحوطة التي شهدت بعد يوم واحد من وصول والد "فرسان" إليها قصة اختفائه المريرة والمثيرة منذ ذلك اليوم المشؤوم وحتى الآن.
في مقر التنظيم
لم يكن المناضل والسياسي "الشعبي" يعلم حينما ودع أسرته وأبناء قريته ذات صباح مشمس، أن ذلك الوداع سيكون الأخير. لم يكن يدرك أن الليلة الساهرة التي قضاها مع عدد من أبناء قريته في "الحوطة" متحدثاً اليهم فيها عن الإستعمار البريطاني وعن النضال والكفاح الذي نال من خلاله شعب الجنوب حريته إلى الأبد، ستكون الليلة الأخيرة وبعدها يختفي من دون أية مقدمات. لم يكن يتصور بالمطلق أن الرجل الذي طالما قض مضاجع المستعمر بخطاباته وبياناته الرنانة عبر أثير إذاعة تعز، وألهب حماس الجماهير. سيختفي عن أعين أهله ومحبيه بمجرد وصوله إلى عاصمة لحج وذهابه لزيارة من كان يعتقد أنهم رفاق الدرب.
في المساء وبينما كان في منزل قريبه المناضل والذي يحمل نفس اسمه (علي حسن الشعبي) تحدث أبو فرسان أنه في الغد سيقوم بزيارة إلى مكتب تنظيم الجبهة القومية في لحج لزيارة من كانت تربطه بهم علاقة صداقة ومسيرة نضال وكفاح مشترك لتحرير الجنوب، ومن ثم سيتوجه إلى معسكر "عباس" لاستكمال إجراءات معاملة نقل أسرته للعيش معه في نيجيريا، ولم يكن يعلم أن تلك الزيارة ستنقله من لحظة العيش مع من كان قد ألفهم من حوله إلى لحظة العيش في المجهول, المجهول الذي ما يزال يطوي حياة مناضل بارز نذر حياته لوطنه وشعبه مقابل ثمن غال ونفيس هو "الحرية" دون غيرها. "ثورتنا المسلحة في الجنوب ليس لها نهاية إلا بنهاية الاستعمار والعملاء، فكلما ازدادت وحشية الاستعمار ازداد غليان مرجل الثورة"، هكذا سطر الفتى العشريني في 7/9/1965 على صدر الصفحة الاولى من صحيفة "الاخبار" اليومية الصادرة من تعز حين ذاك ثم ولَّى يستلهم أفكاراً جديدة لعمل نضالي جديد غير مكترث لبطش الاستعمار ودسائس عملائه.
اللحظات الأخيرة
في صباح اليوم التالي من وجوده في الحوطة، توجه إلى مكتب تنظيم الجبهة القومية لزيارة الرفاق..فكانت تلك الزيارة كما ستعرف لاحقاً سبباً في انقطاع أخباره عن أهله وأقاربه والى هنا انقطعت اخبار علي حسن الشعبي ففي الوقت الذي يتحدث فيه البعض انه اختفى في مكتب التنظيم اي انه دخل اليه ولم يعد ذات صباح مشؤوم يروي البعض عن أن من كانوا في مقر التنظيم أخبروهم أنه ذهب الى معسكر "عباس" لإنجاز معاملة سفر أسرته إلى نيجيريا, لكن "فرسان" أكد لـ"النداء": أن والده اختفى في مكتب تنظيم الجبهة القومية أثناء ذهابه لزيارة الرفاق". وأضاف: "كانت الطامة الكبرى أثناء ذهاب أهل والدي للبحث والسؤال عنه لدى الأجهزة الامنية، وفي مقدمتها ووزارة الداخلية، كجهات اختصاص مناط بها الأمن والأمان والسهر على تحقيقه للمواطنين؛ حيث كانت ردودهم على أسئلة أهل والدي هي: إن هذا الشخص غير موجود في سجلاتنا. وتارات أخرى يردون بأنه غادر خارج البلاد وهي ردود لا تمت للحقيقة بصلة، لأن والدي قد دخل بموجب تأشيرة سياحية لمدة شهر، صادرة عن جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية القسم القنصلي القاهرة".
وتابع فرسان حديثه مع النداء: "لقد كانت المفارقة في احاديث المسؤولين حينها: خرج ولم يعد, دخل ولم يعد, لكن الحقيقة اصبحت وتجسدت في انقطاع أخباره عن أهله وذويه. وظل السؤال الاكثر إلحاحاً لدى أهله: هل هو حي أم ميت؟ إن كان حياً أين هو؟ وإن كان ميتاً من المسؤول عن موته؟ وكيف مات؟ وأين هي جثته؟".
ويقول فرسان أنه في إحدى المرات وفي فترة الثمانينات وبعد الإلحاح المستمر لمعرفة مصير والده من قبل أهله وأقاربه في قرية شعب، حدث تحول مفاجئ في حديث أحد المسؤولين وهو وزير الداخلية صالح مصلح حينما أوصى باعتماد إعانة شهرية لأسرة المختفي، وأشار بعد سؤال وجه إليه عن سبب اعتماد الإعانة والرجل ما يزال مجهول المصير إلى أن "خطأ ما قد حدث". "حينها شعر أهل والدي بأن عملية "اللحس" قد تمت وأن عملية الإنكار والمماطلة ما هي إلا محاولة لإيصالنا إلى هذه القناعة. مع ذلك نحن لم نقتنع. صحيح أننا مؤمنون بالقضاء والقدر، لكن ما زلنا نتطلع إلى معرفة مصير والدي المناضل علي حسن الشعبي حتى اليوم".
والى اليوم ما تزال الإعانة المقررة لأسرة علي حسن الشعبي متوقفة منذ ما يقارب أربع سنوات، والسبب هو "شهادة الوفاة"، إذ أن الجهات المسؤولة حالياً تطالب بإحضارها لاستكمال إجراءات صرف الإعانة بينما أسرة "الشعبي" وأقاربه عاجزون عن ذلك، لأن مصيره ما يزال مجهولاً منذ 34 عاماً..!
***
كان يرسل بيانات «الثورة» عبر الأثير فأُرسل إلى المجهول: علي حسن الشعبي
2007-07-19