يتباهى ما يسمى العالم الأول منذ عقود بقيم حقوق الإنسان، وأهم مقياس لديه هو مدى مساواة المرأة بالرجل، ومدى ضمان حصول المرأة على حقوقها وانصافها وتمكينها اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا.
لقد سقطت أنظمة في ما يسمى بالعالم الثالث، وضاعت شعوب بذريعة انتهاك حقوق الإنسان أو التمييز ضد المرأة.
حقًا كدنا أن نصدقهم.
أصدر مجلس الأمن في عام 2000 القرار رقم 1325 للاعتراف بتباين آثار الحروب والنزاعات على النساء، وينص القرار على حماية المرأة ومنع العنف ضدها وزيادة مشاركتها في عمليات صنع السلام والمفاوضات وحل النزاعات أثناء الحروب والصراعات.
أصبحت عناوين: المرأة ورفض التمييز ضدها مصدر كسب وثراء للمنظمات، وأية قضية ضحيتها امرأة في أي نظام مقاوم، هي قضية "يسيل لها لعاب المنظمات".
إلا أن كل ما سبق كأنه يستثني المرأة الفلسطينية!
فالمرأة الفلسطينية هي التي تدفع ثمن الهولوكوست المزعوم منذ سبعين عامًا!
فقد فقدت وطنها وبيتها، ووالدها وإخوتها وزوجها وابنها ما بين شهيد وأسير وجريح.
ومازالت تنزف وتتألم، ولم تشعر بالطمأنينة ولا الاستقرار منذ ما يقارب المائة عام!
المرأة الفلسطينية تشارك وتجاهد وتعاني منذ ثورة 1936، مرورًا بانتفاضة الحجارة، وصولًا إلى طوفان الأقصى.
وهي في هذا تقدم حالة استثنائية، فقد شاركت في كل مراحل النضال التاريخي الفلسطيني.
وكانت هناك معسكرات تستقبل فتيات فلسطينيات متطوعات بعمر الـ١٤ والـ١٥، يتدربن لشهور على العمليات الفدائية.
من ينسى ليلى خالد أو دلال مغربي؟
حتى المواجهة المسلحة شاركت فيها المرأة الفلسطينية، وفي هذا الجانب عرض مؤخرًا في تونس، ولأول مرة، فيلم وثائقي للمخرجة اللبنانية الراحلة جوسلين صعب، تم تصوير الفيلم منذ ٤٠ عامًا، ولكنه لم يرَ النور بسبب اعتراض القناة الفرنسية الثانية (الممولة للفيلم) على بعض ما تضمنه، ولم يعرض إلا في مهرجان سينمائي في تونس قبل شهور.
شاركت المرأة الفلسطينية أيضًا في النضال السياسي والدبلوماسي.
شيرين أبو عاقلة الصحفية الفلسطينية -الأميركية التي كانت مبررًا للقضية لعقود، والتي قتلها الصهاينة واستفزوا العالم كله هي أحد النماذج الفلسطينية النسوية الماجدة.
كذلك الأسيرات الشجاعات... أو من نجهل أسماءهن، ونلمس تأثيرهن على الواقع، وهن أمهات الأبطال وزوجاتهم.
من يظهرن أمام ركام بيوتهن أو إلى جانب أشلاء أحبابهن، وهن مازلن يتوعدن العدو بالصبر والثبات.
نعم، لقد أثبتت الأحداث أن الدور الأهم والأخطر بالنسبة للكيان الغاصب، هو دورها الاجتماعي والتوعوي كأم.
يتجلى إدراك الصهاينة لأهمية هذا الدور ومدى تأثيره، في الرسائل التحذيرية التي وجهها الناطق باسم الجيش الصهيوني أفيخاي أدرعي، للمرأة الفلسطينية بعد طوفان الأقصى، وكذلك رسائل مساعدته (فلسطينية الأصل) التحريضية للمرأة الفلسطينية.
يقول لها الصهاينة: كل ما تعانينه الآن هو بسببك، وأنت الوحيدة القادرة على تغيير الوضع في المنطقة!
أنت من ترضعين ابنك منذ طفولته المبكرة على فكرة المقاومة.
ألم يحن الوقت كي تتعايشي مع وجود "دولة إسرائيل"؟
ألم تتعبي من المعاناة والعذاب؟
ألن تستسلمي؟
لكنها بالطبع لا تفعل!
تتحدى حصارهم وتجويعهم، تتحدى وحشيتهم.
تقف بوجه مشروع تصب كل آبار النفط العربية لتنفيذه؟
وتسانده الجيوش العربية بتخاذلها وجبنها!
لكن الفلسطينية مازالت صامدة وثابتة، بينما معسكر أعدائها بدأ يصاب بالتعب واليأس والضجر، ويعبر عن كل ما سبق بوحشيته المقززة في غزة ورفح منذ تسعة شهور، الوحشية التي صدمت العالم كله وأبكته لدرجة أن الضابط الأمريكي آرون بوشيل أحرق نفسه احتجاجًا وغضبًا وقهرًا على الفلسطينيين.
العالم كله يشهد مظاهرات ومواجهات عنيفة بين الشعوب والسلطات، ومازالت الاحتجاجات الشعبية والطلابية تتسع كل يوم في مكان جديد، وتزداد صلابة ورفضًا للصلف والوحشية الصهيونية.
ويهمني هنا أن أشير إلى أن أحد أسلحة الصهيونية هو تفكيك الأسرة والمجتمعات، وتضييع الطفل، وتشتيت المرأة والرجل.
ولهذا تستهدف الصهيونية الدين، لأن أحد أدواره هو خلق رابط ثقافي وشعور متبادل بالمسؤولية بين أبناء المجتمع، ونشاطات جماعية مستمرة بين الأسرة والمجتمع (الصلوات والصيام والحج والأعياد والمولد النبويوغيرها).
الصهيونية تريد الفرد وحيدًا كي يكون أضعف، وتسهل السيطرة عليه، تريده منفلتًا أخلاقيًا كي لا يمنعه شيء عن الإدمان والمخدرات والشرور والشذوذ.
ويفقد قوته وقدرته على المقاومة، ويفقد احترامه لنفسه، ويقبل أي شيء وكل شيء.
الصهيونية ما كانت لتبقى وهي كيان مفتعل ودخيل ومصطنع لولا أنها تعمل في أكثر من جبهة.
الثقافة الغربية التي تسود العالم هي في أغلبها إنما تخدم الصهيونية.
العالم يلبس ويأكل ويفكر كما يريد الصهاينة.
والنتيجة عالم مضطرب، غاضب، تعاني أغلب الشعوب فيه من الفقر والتعاسة، بما فيها المجتمعات الأوروبية والأمريكية!
الفلسطينية أدركت هذا، فلم تستجب مثلًا لدعوات تحديد النسل بالرغم من صعوبة ظروفها!
وهي من أعلى النساء خصوبة في العالم.. تنجب أبطالًا وفدائيين ومقاومين باستمرار.
وهي في الوقت ذاته عاملة ومكافحة، وتعيل أسرتها في كثير من الأوقات.
لكم أن تتخيلوا لو أن الفلسطينية انهارت أو انحرفت، كيف سيصبح المجتمع الفلسطيني؟
حريٌّ بالتأمل كيف أن الثقافة الصهيونية غزت العالم، بل صارت نسبة لا بأس بها من النساء العربيات متأثرات ومتشبعات بهذه الثقافة، بينما الفلسطينية الصامدة في أرض فلسطين، والتي يستقر الصهيوني على أرضها لم تقبل ثقافته أبدًا.
هؤلاء النسوة جعلهن الله جل جلاله من ضمن أسباب الصمود والنصر القريب، ليس على مستوى فلسطين وحدها، بل على مستوى المنطقة والعالم كله إن شاء الله!
لله درك أيتها المرأة الفلسطينية العظيمة، وجزاك الله خيرًا عن الأمة وعن الإنسانية كلها.
وإذا كان للنساء في العالم أن يفخرن وأن يستشهدن بمثال يثبت مدى قوة المرأة وتأثيرها، فالمرأة الفلسطينية هي النموذج الأفضل لهذا.
امرأة تغير العالم بثباتها ونضالها بوجه قوى الشيطان لما يقارب المائة عام!