تشهد العلاقات السعودية الإماراتية توترًا ملحوظًا، واتجهت مؤخرًا نحو مزيد من التأزيم والعلن، على خلفية عدد من الملفات المشتركة بين البلدين الجارين وتنافسهما الجيوسياسي في المنطقة.
وفي تطور لافت، تخطت الخلافات بين الرياض وأبوظبي إمكانية الحوار الثنائي، وتجاوزت البيت الخليجي، واتجهت نحو أروقة الأمم المتحدة كأعلى هيئة دولية، مما ينذر بمرحلة جديدة من التصعيد غير المسبوق يلقي بظلاله على العلاقات بين الدولتين الحليفتين، ويعيد رسم المشهد السياسي في المنطقة.
ويأتي هذا التصعيد بين البلدين على خلفية نزاعهما الحدودي على منطقة "الياسات" البحرية، التي تقع بالقرب من المياه الإقليمية لكل من السعودية والإمارات، وهو خلاف تاريخي تعود جذوره إلى ما يزيد عن نصف قرن، وقد ظل مستورًا حتى خرج إلى العلن في الأشهر الأخيرة، بعد تفاقم الخلافات بين البلدين في عدة قضايا.
في ديسمبر الماضي، قدمت السعودية شكوى رسمية إلى الأمم المتحدة، متهمة الإمارات بالتعدي على حدودها البحرية، مؤكدة عدم اعترافها بأي إجراءات أو ممارسات يتم اتخاذها من قبل الحكومة الإماراتية في المنطقة البحرية. في المقابل، وجهت الخارجية الإماراتية مذكرة إلى الأمم المتحدة، في مارس الماضي، عبرت فيها عن رفضها التام للادعاءات السعودية، وأكدت تمسكها بخطوط الأساس المستقيمة لحدودها البحرية المعلن عنها في عام 2022.
الشكوى السعودية للأمم المتحدة والرد الإماراتي
أعلنت السعودية في المذكرة التي نشرتها الأمم المتحدة في موقعها الرسمي بتاريخ 18 مارس 2024، رفضها "قرار مجلس وزراء دولة الإمارات العربية المتحدة رقم 35 عام 2022، المتضمن إعلان تطبيق نظام خطوط الأساس المستقيمة مقابل سواحل دولة الإمارات"، وأكدت تمسكها "بكافة حقوقها ومصالحها، وفقًا لاتفاقية الحدود المبرمة بين البلدين في 21 أغسطس 1974، الملزمة للطرفين وفقًا للقانون الدولي العام".
الخارجية السعودية قالت عن مذكرتها إنها "وثيقة رسمية، وتطلب من الأمانة العامة للأمم المتحدة تسجيلها ونشرها وتعميمها على كافة الأعضاء وفق الإجراءات المتبعة في الأمم المتحدة". وبالمثل فعلت الحكومة الإماراتية، وطالبت الأمانة العامة للأمم المتحدة نشر وثيقتها وتعميمها وفق الممارسة المتبعة لديها". وأكدت أن خطوط الأساس المستقيمة التي أودعتها لدى الأمين العام للأمم المتحدة تترتب عليها كافة الآثار القانونية المكفولة لها في مناطقها البحرية بموجب القانون الدولي للبحار.
وفقًا للقانون الدولي للبحار، فإن خطوط الأساس المستقيمة، التي تكرر ذكرها في وثيقتي السعودية والإمارات، هي خطوط تُستخدم لتحديد نقاط البداية التي يُقاس منها عرض البحر الإقليمي للدولة. إذ يُمكن للدولة الساحلية أن ترسم خطوط أساس مستقيمة عندما يكون الساحل متعرجًا أو يوجد به مجموعة من الجزر، وهذه الخطوط تُعتبر أساسًا لتحديد المناطق البحرية التي تُمارس عليها الدولة سيادتها.
"الياسات" وجذور الخلاف
تقع منطقة "الياسات" على الشريط الساحلي الذي يفصل بين السعودية والإمارات، وهي منطقة غنية بالموارد الطبيعية، وتحتوي على تنوع بيولوجي، مما يزيد من أهميتها الاستراتيجية والبيئية.
وتعود جذور الخلاف السعودي الإماراتي حول منطقة الياسات إلى اتفاقية الحدود المبرمة بين البلدين في عام 1974، والتي تضمنت ترسيم الحدود البرية والبحرية، وفقًا لما عرف حينها باتفاق جدة، الذي وصفته الإمارات لاحقًا بالاتفاق المجحف، متهمة السعودية باستغلال حاجتها للاعتراف بها بعد استقلالها عام 1971، وساومتها كدولة وليدة، وانتزعت منها امتيازات كثيرة بينها مناطق نفطية.
عقب وفاة مؤسس دولة الإمارات الشيخ زايد بن سلطان، بدأ أبناؤه يفصحون عن استيائهم من اتفاق جدة، ووجهت الإمارات في 2005 مطالبات للرياض بإعادة النظر في الاتفاقية والشروع بترسيم عادل للحدود البحرية، وهو ما رفضته الرياض التي تمسكت باتفاق جدة المبرم منتصف سبعينيات القرن الماضي.
لجأت الإمارات إلى خطوات تصعيدية وإجراءات أحادية الجانب، وأصدر الشيخ خليفة بن زايد، مرسومًا أميريًا عام 2005 أعلن بموجبه "الياسات" محمية إماراتية طبيعية، وأصدرت هيئة المساحة الجيولوجية الإماراتية خرائط جديدة تظهر "الياسات" ومناطق أخرى تابعة للسعودية، ضمن الحدود الجغرافية لدولة الإمارات، وهو ما اعتبرته السعودية تصعيدًا غير مقبول من أبوظبي، لتشهد الأعوام بين 2006 و2010 توترًا ملحوظًا بين الدولتين، اللتين اضطرتا مع أحداث الربيع العربي إلى ترك خلافاتهما البينية جانبًا، والتحالف لمواجهة تطورات الأحداث في المنطقة.
تقاطع المصالح
مع اندلاع ثورات الربيع العربي العام 2011، شكلت السعودية والإمارات تحالفًا لمواجهة مخاوفهما المشتركة، وفي مقدمتها ارتدادات هذه الثورات وزعزعة أنظمة الحكم في الخليج، فضلًا عن مخاوف البلدين من تزايد نفوذ الجماعات الإسلامية، وامتداد النفوذ الإيراني في المنطقة.
في اليمن بدت السعودية والإمارات أبرز الحلفاء خلال سنوات الحرب التي اندلعت العام 2015 بين جماعة الحوثي المدعومة من إيران، وحكومة الرئيس المعترف به عبد ربه منصور هادي، بدعم من تحالف عسكري عربي بقيادة الرياض وأبوظبي، غير أن الأهداف المشتركة لهذين البلدين بدأت تتباين وتختلف وفقًا لمصالح وأولويات كل منهما. وانتهى الأمر بإعلان الإمارات، عام 2019، انسحابها رسميًا من التحالف العسكري في اليمن، لكن صراع النفوذ استمر، مع دعم أبوظبي لفصائل عسكرية وسياسية في البلد، ومثلها فعلت السعودية.
تقاطع الاستراتيجيات بين البلدين تكرر في السودان، وملفات أخرى في المنطقة، زادت جميعها من حدة التوتر في العلاقة بين السعودية والإمارات. لتقوم الأخيرة بإحياء ملف منطقة الياسات مجددًا.
في مارس 2019 أصدرت الحكومة الإماراتية مرسومًا قضى بزيادة مساحة "الياسات" من 428 كم مربعًا، إلى نحو 2256 كم مربعًا.
وفي العام 2022 أصدرت الحكومة قانونًا قضى بتضمين خطوط الأساس المستقيمة لدولة الإمارات العربية المتحدة، ما دفع السعودية إلى التصعيد، وتقديم شكوى رسمية للأمم المتحدة ضد الإمارات، التي ردت بشكوى مماثلة في مارس الماضي.
وهو إجراء وإن كان الهدف من ورائه رغبة كل بلد في الحصول على دعم دولي وشرعية لموقفها من خلال الأمم المتحدة، إلا أنه يشير إلى تفاقم الخلاف بين البلدين، وعدم القدرة على حله ثنائيًا أو عبر الآليات الإقليمية مثل مجلس التعاون الخليجي أو جامعة الدول العربية.
ويعبر مراقبون عن مخاوفهم من اتساع حدة الخلافات السعودية والإماراتية والتأثيرات السلبية التي قد لا تقف عند حدود العلاقات الثنائية للبلدين وحسب، بل قد تمتد لتهديد الأمن والاستقرار في الخليج، والمنطقة العربية الغارقة بالكثير من الأزمات والتحديات.