صنعاء 19C امطار خفيفة

الهوية الوطنية للجنوب بين الأمس واليوم

الهوية الوطنية للجنوب بين الأمس واليوم
يمكن طرق موضوع الهوية الوطنية للجنوب ومسار تطورها باختصار من مدخل الأغنية في عدن ومسار تطورها بدءاً من انتصاف القرن الفائت، كما يظهر تحديداً لدى الأستاذ محمد مرشد ناجي رحمة الله عليه وألحانه خلال الخمسينيات.

فقد تدرج مساره الفني حينها بوعي بين أطوارٍ ثلاثةٍ بدأت إبان صلته وتأثره بـ"ندوة الموسيقى العدنية" والرابطة الموسيقية العدنية (1949-1951) بأولى أغانيه "هي وقفةٌ" وغيرها من أغنيات الطور العدني لديه، أو ما يمكن أن نسميه طور "الوطنية العدنية" التي مثلتها سياسياً "الجمعية العدنية" (1949).

[embed]https://www.youtube.com/watch?v=5h2v0pLB6eM[/embed]


تأتي بعد ذلك حتى أواسط الخمسينيات أغنيات الطور الثاني في مساره الفني والفكري الذي اتجه فيه بوعي إلى استلهام النغمة الشعبية في مناطق الجنوب من محميتي مستعمرة عدن، مثل "على امسيري" وغيرها من مرشديَّات الطور الجنوبي لديه، أو ما يمكن أن نسميه طور "الوطنية الجنوبية" التي مثلتها سياسياً "رابطة أبناء الجنوب العربي" (1951).

عقب منتصف الخمسينيات، نجد أغنيات الطور الثالث الذي جسد اختلافه ضمن مثقفي جيله مع الرابطة، وتأثره بكل من "الجبهة الوطنية المتحدة" (1955) التي انتمى إليها، و"المؤتمر العمالي" (1956) بأفقهما اليمني الأرحب؛ حيث نجد حينها تركيزه على النغمة الشعبية اليمنية عموماً في أغنيات مثل "يا نجم يا سامر" وغيرها من مرشديَّات الطور اليمني لديه، أو ما يمكن أن نسميه طور "الوطنية اليمنية".

https://www.youtube.com/watch?v=NdKY7J7uXBA&pp=ygUZ2YrYpyDZhtis2YUg2YrYpyDYs9in2YXYsQ%3D%3D

على أن المرشدي لم يجسد ذلك بوعي في مطربات ألحانه وأغانيه فحسب؛ بل في توجهه كذلك إلى التأليف، مُصدِراً أول كتبه "أغانينا الشعبية" في 1959؛ الأمر الذي يقول عنه في خاتمة كتابه الثاني "الغناء اليمني القديم ومشاهيره" (1983) إنه كتبه "للتوكيد على يمنية الأرض التي كانت موضع خلافنا مع التيارات السياسية الأخرى".

ذلك ما يقوله هو عن تجربته، وما يعبر به في الحقيقة عن سمة غالبة من التدرج في مستويات مفهوم الوطنية وحدوده، طبعت معظم جيله في عدن خلال تلك السنوات.

وبما أن الوطنية بطبيعة الحال ترتبط بالاستقلال ورفض أشكال التبعية والوصاية الخارجية، فقد ارتبطت في عدن المستعمرة حينها بالتطلع والسعي إلى الاستقلال على اختلاف درجاته وتصوراتها لحدوده ما بين استقلال عدن، ثم استقلال الجنوب العربي، إلى استقلال الجنوب اليمني؛ وذلك بحسب مستويات مفهوم الوطنية لدى مختلف اتجاهات حركتها السياسية.

وطوال العقد المذكور حتى مستهل تاليه تقريباً، كان من المسلم به عامةً أن لا وسيلةَ لتحقيق الاستقلال المنشود سوى النضال السلمي المدني والسياسي الذي كانت حواضنه الرئيسة: الجمعية العدنية، فرابطة الجنوب العربي، ثم الجبهة الوطنية والمؤتمر العمالي وما يتفق معهما بشأن هوية الجنوب من التنظيمات اللاحقة.

لقد تعايشت الأطوار الثلاثة وتداخلت أحياناً، لكن سرعان ما تخلى أضيقها نزعةً ومفهوماً لصالح أوسعها، بطبيعة الأحوال ومنطقها السليم.

وكان النضال السلمي هو الخيار الوحيد للقوى والتنظيمات التي تأسست علناً في عدن حتى مطلع الستينيات كحزب الشعب الاشتراكي (الأستاذ عبدالله الأصنج) واتحاد الشعب الديمقراطي (الأستاذ عبدالله باذيب -الذي سرعان ما أيد الكفاح المسلح ونصح أعضاء اتحاد الشعب بالانخراط فيه مع الجبهة القومية لاحقاً)؛ بينما كان طابع العمل السري يغلب على بعضها، ومن أبرزه حركة القوميين العرب التي تأسست سراً في نوفمبر 1959، وهو نفس العام الذي شهد، في 11 فبراير منه، قيام اتحاد إمارات الجنوب العربي الذي رعته بريطانيا وسعت إلى إنشائه عملياً منذ 1954، واضطلع بالجهد الأكبر في التهيئة لقيامه المعتمد البريطاني للمحمية الغربية ثم المندوب السامي لمستعمرة عدن كِنِدي تريفاسكس.

إحدى ذروات النضال السلمي الكبرى في المستعمرة تمثلت في المظاهرات الرافضة لمشروع الحكم الذاتي لعدن تمهيداً لضمها لذلك الاتحاد، والتي زحفت إلى مقر المجلس التشريعي أثناء انعقاده لمناقشة ذلك المشروع وإقراره التفافاً على مطلب الاستقلال الحقيقي كما جاء في الدعوة السياسية إلى ذلك الزحف التي وجهتها أساساً قيادة حزب الشعب الاشتراكي الذي أنشئ في يوليو 1962 بعد عرقلة النشاط السياسي للمؤتمر العمالي.

جرى ذلك الزحف يومي 24 و25 سبتمبر 1962، عشية ثورة 26 سبتمبر بصنعاء، التي تعزز بها رسوخ مفهوم الوطنية اليمنية في عدن والجنوب، واتسع طاغياً على ما سواه، متجلياً في اندفاع أعداد كبيرة من أبنائه شمالاً للدفاع عنها حين رمت السعودية بثقلها لوأدها.

كما كان لها أثرها الحيوي كذلك في تعزيز فكرة الكفاح المسلح واتساع نطاقها حتى فرض واقعها نفسه على بعض أعتى مناوئيها من السياسيين كحزب الشعب وقائده عبدالله الأصنج؛ بصرف النظر عن صوابها أو خطئها في التقويم الراهن لها بالطبع.

يقول الكاتب عادل رضا في مؤلفه القيم "ثورة الجنوب"، إنه "ما بين أواخر 1962 وفبراير 1963 تمت لقاءات بين القوى الوطنية في صنعاء، دعا إليها بعض رجالات القبائل البارزين وممثلون عن الجيش الاتحادي الذين أتاحت لهم الظروف أن يلجؤوا إلى الشمال، وممثلون عن حركة القوميين العرب... حيث استطاعت هذه العناصر والشخصيات أن تتزعم الدعوة لاجتماع موسع للقوى الوطنية في "دار السعادة" بصنعاء يوم 24 فبراير 1963، حضره أكثر من ألف شخص من القبائل والجنود والضباط الأحرار وممثلي حركة القوميين العرب، أقر إعداد مشروع ميثاق يتضمن نداءً إلى الفئات الوطنية يدعوها للقاء في جبهةٍ واحدة. وقد اتفق الحاضرون يومها على اختيار لجنة من بينهم قوامها 11 شخصاً، وهم: قحطان الشعبي، ناصر السقاف، عبدالله المجعلى، محمد على الصُّماتى، ثابت علي المنصوري، محمد أحمد الدُّقْم، بخيت مليط، أحمد عبدالله العولقي، عيدروس حسين قاضي، علي محمد الكاظمى، وعبدالله محمد الصلاحي.

عقب عدة اجتماعات، توصلت اللجنة إلى وضع مشروع ميثاق صدر، بعد أن تم إقراره في اجتماع يوم 8 مارس 1963، باسم "الميثاق القومي لجبهة تحرير الجنوب اليمني المحتل". وقد جاء في مقدمة بيانه أنه: بعد قيام ثورة 26سبتمبر ووجود قاعدة النضال التحرري في الشمال اليمني، أصبح من الضروري والمحتم على الهيئات العاملة بجد في الحقل الوطني أن تعمل للتلاؤم مع طبيعة الظرف الجديد حتى تستطيع إعداد نفسها إعداداً ثورياً صحيحاً لتحمل مسؤولية تحرير الجنوب اليمني... ووحدة إقليم اليمن.

أما الأشكال الاتحادية الاستعمارية، فما هي إلا مصيدة لامتصاص النقمة الشعبية ومحاولة لصرف الشعب عن نضاله لوحدة الإقليم اليمني إلى نضالٍ يثبت تجزئة الإقليم تحت شعار الاتحاد.

وعلى هديٍ من هذه الاعتبارات، رأينا ضرورة البدء في السير خطوة أولية لتكوين مكتب سياسي يضم رجال المعركة المسلحة".

فكان أن وضع هذا الميثاق التاريخي الأساس الذي أدى خلال الأشهر الخمسة اللاحقة إلى اندماج المنظمات السبع في ذلك التشكيل الجبهوي المتبني الكفاح المسلح، والمعلن قيامه يوم 19 أغسطس 1963، باسم "الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل".

وعلى الرغم من مشاركة حزب الشعب ورديفه المؤتمر العمالي في ذلك اللقاء، فقد أعلن موقفاً معارضاً للاتجاه الغالب على لسان علي حسين القاضي بقوله: "إني أعلن باسم مؤتمر عدن للنقابات وحزب الشعب الاشتراكي أننا ضد الحرب والكفاح المسلح، وضد الإرهاب... من أجل تحرير الجنوب اليمني المحتل، ونريد حل هذه القضية بالطرق السلمية وطريق المفاوضات". وأكد الحزب ذلك لاحقاً في كتيّبه "هذا هو موقفنا"، معلناً أنه مع إيمانه الكبير بأن جلاء المستعمر من بلادنا واجب مقدس، "فهو لا يؤمن بسفك الدماء، حيث يمكن حقنها"، فالنضال المسلح وسيلة رئيسية للضغط على الاستعمار، وليس لإحراز انتصار حاسم.

وهو الموقف عينه الذي اتخذه الحزب الوطني الاتحادي بقيادة حسن بيومي، وإن اختلف في تبريره قائلاً: "نحن لا نؤمن بسفك الدماء، إذ إننا لا نؤمن بأنظمة الحكم العسكري الديكتاتوري، أو ذات الحزب الواحد، ولا نقبل لأي بلد أو هيئة أو منظمة التدخل في شؤون بلدنا".

وكذلك فعلت رابطة أبناء الجنوب العربي، واصفةً الجبهة بتنظيم موجه من الخارج، ويسيطر على قيادتها عصبة من المارقين على إطار الحركة الوطنية ومحترفي السياسة.

وعليه فلم تتحقق مقدمات ثورة تحرير الجنوب اليمني المحتل، ولم يجرِ اغتنام فرصتها بعد أن سنحت بواقعة 14 أكتوبر 1963، إلا وقد حُسمت قضيتان رئيستان هما الهوية الوطنية اليمنية للجنوب والكفاح المسلح وسيلةً لتحريره وانتزاع استقلاله التام.

اللافت المؤسف اليوم حقاً أن أزمة الهوية الوطنية عادت للبروز في الجنوب منذ عقد ونيف بين أوساط الحراك على استحياء أولاً وفي نطاق محدود؛ ثم أعيد بعثها وتأجيجها في عموم مجتمعه بقصد خبيث اتسع انكشافاً مع العدوان السعودي الإماراتي والأمريكي البريطاني الذي استثمرها ممعناً في الاشتغال عليها وتغذيتها. ولا عجب؛ فهي هوية لقيطة الأصل بريطانية المنشأ أساساً.

وبذلك فإن مسار التطور المتعلق بقضية الهوية في الجنوب قد انعكس على نحو مؤسف وبعد أكثر من نصف قرن على حسمها النهائي، وانقلب تدرجها الطبيعي رأساً على عقب من اليمنية إلى الجنوبية اليمنية إلى الجنوبية العربية (غير اليمنية) إلى العدنية والحضرمية وعموم المناطقية المقيتة.

* من ورقة بعنون: "ثورة 14 أكتوبر، وهوية الجنوب بين الأمس واليوم"

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً