صنعاء 19C امطار خفيفة

حينما ينتصر الموت على المتحرش تكون الضحية امرأة

دون خيارات أخرى للهرب من قبضة الذئاب البشرية، قفزت الشابة "بثينة علي السمة" من على متن "باص نقل عام" كان يقوده بسرعة جنونية، وحش بشري حاول اختطافها مع ركاب آخرين والتحرش بها، وفقًا للرواية -غير الرسمية- المتداولة للواقعة التي تحولت إلى قضية رأي عام في اليمن.


جسر حدة المدينة (شبكات التواصل) جسر حدة المدينة (شبكات التواصل)

وتحت "جسر المدينة" في منطقة حدة جنوبي العاصمة اليمنية صنعاء، وجدت بثينة مغشيًا عليها تعاني من إصابات بالغة جراء ارتطام جسدها بالأرض، وما لبثت أن ماتت في المستشفى، مخلفة صدمة كبيرة في أوساط المجتمع من هول الفاجعة التي سلطت الضوء على تنامي ظاهرة الاختطاف والتحرش بالنساء، وغياب إجراءات الحماية لهن.
تبدأ أحداث القصة المأساوية في الرابع من سبتمبر الحالي، عندما خرجت بثينة، 23 عامًا، طالبة سنة رابعة بكلية التجارة والاقتصاد، من جامعتها إلى جولة الرويشان، وكالعادة استقلت الباص الذي يتوجه إلى حدة العشاش جنوبي صنعاء، حيث يقع منزل أسرتها، وعند وصول الباص بمعية الركاب إلى ما قبل جولة جسر حدة، تعرضت الفتاة للتحرش ومحاولة الاختطاف، مما دفعها إلى القفز من على متن الباص، وهو ما سجلته كاميرا الجسر التي وثقت تلك اللحظات المؤلمة ولحظة فرار سائق الباص مع الركاب.
يقول نادر الكبودي، وهو أحد شهود العيان الذين عثروا على بثينة ملقاة على الأرض: "وإحنا ماشيين من تحت جسر حدة عند الساعة الثانية بعد الظهر، شاهدنا فتاة مُلقاة على الأرض بدون أي حركة، وقام فاعل خير بأخذها بسيارته إلى مستشفى بروج صنعاء القريب من الحادث".
ومن هناك تم التواصل مع أسرة "بثينة"، وعلى الفور حضر إلى المستشفى والدها وشقيقها الأصغر اللذان صُعقا برؤية بثينة بين الحياة والموت.
يقول فواز السمة -وهو الأخ غير الشقيق لبثينة- في حديثه لـ"النداء": كان والدي وأخي يعتقدان أن بثينة تعرضت لحادث مروري مروع، وعلى الفور طلب والدي نقلها إلى مستشفى الشرطة (حكومي)، بعد أن طلب المستشفى الخاص مبلغًا ماليًا كبيرًا تكاليف علاجها.
كانت بثينة تعاني من كسور ورضوض في كامل جسدها، ولم تصحُ من غيبوبتها حتى فارقت الحياة في مستشفى الشرطة، بعد أربعة أيام فقط من وقوع الحادثة، وتحديدًا في الثامن من سبتمبر، وفقًا لما ذكره الإعلامي والناشط في الحقوق الرقمية مختار عبدالمعز، على صفحته الشخصية في "فيسبوك".
عدا الكسور الناجمة عن ارتطام جسد بثينة بالأرض، قالت الطبيبة الشرعية لأسرة بثينة إن هناك آثار خنق في رقبة الضحية، بالإضافة إلى آثار خربشات أظافر على ساعديها. إفادة الطبيبة كانت شفويًا، ومازالت الأسرة تنتظر تسليمها التقرير بصورة رسمية.

 

تهاون


اعتصام امام ادارة البحث الجنائي لاسرة بثينة (منصات التواصل) اعتصام امام ادارة البحث الجنائي لاسرة بثينة (منصات التواصل)

عند مراجعة كاميرات الشارع الذي وجدت فيه بثينة ملقاة على الأرض، تبين لأسرتها ولأجهزة الأمن التي باشرت التحقيق في الواقعة، أن بثينة لم تمت بحادث مروري، ليتم على الفور إلقاء القبض على سائق الباص، إلى جانب أحد الركاب الذين تواجدوا داخل الباص أثناء حدوث الواقعة، لكن هذا الأخير تم الإفراج عنه بضمانة من قبل قبل إدارة أمن المنطقة الرابعة، وهو ما اعترضت عليه أسرة الضحية، واعتبرته تهاونًا منذ البداية.
يقول فواز السمة لـ"النداء": "  في بداية الأمر تهاونت إدارة أمن المنطقة الرابعة إزاء الجريمة، وتم إطلاق سراح طفل (14عامًا) بضمانة تجارية، كان بجوار السائق، ولكن البحث الجنائي أعاده مرة أخرى للتحقيق معه". نفذت الأسرة، في يوم الأحد 10 سبتمبر، اعتصامًا أمام إدارة مبنى البحث الجنائي، طالبوا من خلاله بسرعة اعتقال الجناة المشاركين في الجريمة، كما سلمت أسرة بثينة مذكرة لوزير الداخلية في حكومة جماعة الحوثي بصنعاء، وأخرى لنائب رئيس الحكومة لشؤون الدفاع والأمن، طالبوا فيهما بسرعة أخذ حق ابنتهم واعتقال الجناة ومحاسبتهم.

 

حرقة الأم


لم تتحمل والدة بثينة هول الصدمة عندما وقع على مسامعها خبر وفاة ابنتها، وعدا الصراخ والبكاء بحرقة شديدة والكثير من الدموع، فقدت الأم المكلومة بشكل مفاجئ قدرتها على النطق والحركة، وتم نقلها إلى المستشفى مرتين متتاليتين في نفس يوم وفاة ابنتها.
لقد ساءت صحة الأم بشكل كبير خلال الأيام الأولى لواقعة بثينة، وهي اليوم وإن عادت إليها صحتها تدريجيًا، إلا أنها مازالت تعيش هول الصدمة، بحسب فواز السمة.

 

تنامي الظاهرة


أسراء عقب تعرضها لخدوش بعد ان قفزت من الباص(شبكات التواصل) أسراء عقب تعرضها لخدوش بعد ان قفزت من الباص(شبكات التواصل)

تعد حادثة بثينة، هي الثانية من نوعها خلال أكثر من عام، بعد قيام فتاة من مدينة يريم بمحافظة إب، تدعى رباب أحمد علي، بتاريخ 19 يونيو 2022م، بالقفز من على متن باص، لإنقاذ نفسها من محاولة تحرش واختطاف، فماتت على الفور.
وهي الحادثة التي أثارت الرأي العام حينها، الأمر الذي دفع السلطات القضائية حينها إلى إجراء محاكمة عاجلة قضت بإعدام السائق، غير أن الحكم لم ينفذ حتى الآن.
تروي الناشطة الشبابية إسراء عبدالرحمن، في منشور لها على "فيسبوك"، موقفًا مشابهًا حدث لها عندما كانت على متن الباص، وقالت: "في ليلة رأس السنة وأنا في طريقي للبيت فجأة غيّر سائق الباص الطريق الرسمي، ودخل من حارة ندخلها عشان نهرب من زحمة الجولة".
وتابعت: "الغريبة أنه لما لف عشان يرجع للشارع الرئيسي دخل من حارة ثانية، وأنا هنا قلقت وسألته ليش ما يرجع للشارع الرسمي وما رد لا هو ولا صاحبه الذي جنبه وكان يرفع صوت المسجلة ويسوق بسرعة".
عندما وجدت إسراء نفسها تبعد عن الأضواء، تسلل الخوف إلى داخلها، وقفزت من داخل الباص، وأصيبت برضوض كثيرة وجروح أقعدتها أسبوعًا كاملًا في المنزل.
إسراء التي نجت بعد قفزتها، لم تقف مكتوفة الأيدي، بل قامت بإبلاغ القسم بذلك، وتابع أقاربها، وفي الأخير أبلغوها أن السائق مخطئ، ولكن لا توجد عليه أية تهمة أو سوابق، وأنه غيّر الطريق من أجل الهروب من الزحمة، وتركوا لها بعد ذلك خيار التنازل أو لا.
قالت إسراء إن الشيء الوحيد الذي طلبته من القسم في ذلك الوقت، عمل خط ساخن مخصص لمثل هذه الحوادث، ومعمم على جميع الباصات، وهذا ما لم يتم حتى اليوم.

 

الحماية القانونية


لا يوجد في القانون اليمني عقوبات مباشرة ضد المتحرشين، ولكن تم تجريم التحرش تحت مسمى "الفعل الفاضح"،

حيث لا تتجاوز العقوبة السجن مدة ستة أشهر أو دفع غرامة مالية.

ويرى المحامي فؤاد العلفي أن الجريمة غير جسيمة في القانون اليمني، ولا تتناسب مع حجم الضرر الذي يلحق بالمرأة، ولا تتناسب مع قيم وأخلاق مجتمعنا.
ولهذه الجريمة تداعياتها على المجتمع اليمني الذي بات يخشى على النساء في ظل هذه الأوضاع، حيث سيكون لها انعكاسات سلبية على الأسر التي قد تمنع بناتها من الدراسة أو العمل أو حتى حضور المناسبات الاجتماعية، خوفًا عليهن من الذئاب البشرية التي استغلت الانفلات الأمني والتحريض الممنهج ضد النساء، ناهيكم عن المبالغة التي سيعمل الكثير على بثها بين أفراد المجتمع من أجل التأثير على الأسر ليكون لهم الدور السلبي على بناتهم في ما يتعلق بمستقبلهن العلمي والعملي.

 

دور المنصات الرقمية


على الرغم من استغلال البعض لوسائل التواصل الاجتماعي بشكل سلبي، إلا أن هذه الوسائل لعبت الدور الإيجابي في الكشف عن مثل تلك الجرائم التي لولا هذه الوسائل لما تحولت قضية بثينة السمة في صنعاء أو قضايا مشابهة في محافظات أخرى، إلى قضايا رأي عام، كما أنه لولا هذه الوسائل لما حصل ضغط على الجهات المعنية للنظر في هذه القضايا والبت فيها، وأيضًا التوضيح للآخرين حول حقيقة ما حدث ويحدث.
ومن خلال هذه الوسائل طالب العديد من الناشطين والإعلاميين والكتاب، الجهات المعنية بضرورة ضبط الجناة ومحاسبتهم، وذلك حتى لا تتحول هذه الجريمة إلى ظاهرة تصبح فيها المرأة مستهدفة في أي مكان سواء على وسائل المواصلات أو أماكن العمل وغيرها.

من جهة اخرى ادانة المؤسسة الوطنية لمكافحة الاتجار بالبشر وبأشد العبارات ما تعرضت له الطالبة الجامعية بثينة من محاولة اختطاف بالقوة والاكراه.
وطالبت في بيان صادر عنها وزارة حقوق الإنسان ووزارة الداخلية بفتح خط ساخن للإبلاغ عن حالات التحرش في وسائل المواصلات يضمن خصوصية الحالة التي تقوم بالإبلاغ وعدم الكشف عن شخصيتها بسبب خصوصية المجتمع اليمني على ان يتم نشر الخط الساخن على كل خطوط المواصلات العامة بمختلف أنواعها.

 

ما خفي أعظم


قضية بثينة ليست الأولى، ولن تكون الأخيرة، وبالتالي فإن أي تخاذل أمني تجاه هكذا قضايا سيجعل هذه الجرائم تتزايد، خصوصًا أننا في مجتمع تخشى فيه المرأة أن تبلّغ أسرتها أو حتى الأمن في حال حدث لها تحرش أو محاولة اختطاف، لأن اللوم دائمًا يقع على المرأة، وفي الوقت ذاته لا يوجد هناك ما يحمي المرأة من هذه التصرفات، خصوصًا مع تزايد التحريض ضد النساء في وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي ومنابر المساجد.
وإن كان هذا ما ظهر من قضايا تحرش واختطاف، فالمؤكد أن ما خفي أعظم.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً