"دحباشي" في عدن للمرة الأولى (2-2).. مدينة كرَّست للحب ساحلين وألف معركة - محمد حسين الظاهري
"الجنة" من وجهة نظر ثورية
ربما حصلت عدن على الكثير خلال 162 عاما إنجليزيا من تاريخها ليصبح أحد أكثر أسمائها شهرة "جنة عدن".
وبالتأكيد حصلت بريطانيا على أكثر من مما تحلم. لكنها في النهاية مجرد غاز يجب أن يرحل، أو على الأقل هذا ما توصل إليه "الرفاق" خلال كل هذا التاريخ.
قامت الثورة، ورحلت بريطانيا أخيرا، إلا أن الثورة لم تتوقف. حين انتهى الرفاق من دماء الغزاة، قرروا استنزاف دمائهم.
كأن الثورة أدمنت الدماء وضيعت أسبابها، أو أن الثوار لم يفكروا سوى في الثورة، وحين انتهوا منها، لم يكن لديهم شيء، فاختلقوا خصوما جددا، أي شيء يستدعي قيامهم بما يجيدونه.
حتى الذين ناهضوا ثورة السلاح، وفكروا باستقلال مسالم، ربما برسالة فائقة التهذيب تطالب انجلترا أن ترحل، تغادر أهم ما حصلت عليه مع فائق الاحترام والتقدير. اختفوا.
وجه الحالمون رسائلهم المهذبة إلى أماكن أخرى، بينها انجلترا نفسها. أضافوا إلى رسائلهم سطرا خائفا يبحث عن ملاذ، عن وطن ليس بحاجة إلى دمائهم.
وجهة نظر ثورية جعلت المكان حري بلقب "جحيم عدن". رفاق الدرب تحولوا إلى ثوار ورجعيين، ماركسيين وخونة، يمين ويسار، فصلبوا أحلامهم على وهم من الشعارات.
اختزلت أهداف الثورة وأحلام الحرية، واستعيض عنها بمصنفات اصطلاحية، واستبدل العدو الخارجي بآخر داخلي.
ومع كل مصطلح جديد، يأتي تصنيف جديد لعدو جديد، ومنفى جديد، وبين هذا تساقطت أحلام الناس وأمانيهم بعيش "أكثر حرية وأقل إثارة للمخاوف".
أثلج كل هذا قلبا واحدا: بريطانيا التي لم تكن أصلا بعيدة عن تدبر أسبابه، في البداية من أجل مصالحها التي اتسعت لتشمل أكثر من عدن، القطن والنفط. ثم لتدمر ما بنته.
بالعودة قليلا إلى الوراء لا يوجد تفسير لكل ما حدث. هناك تفاسير لبعض ما حدث، وسأبقي لـ"الحمق" مهمة تفسير البعض الآخر.
صنعت بريطانيا الأحزاب، أو ساعدت هوسا عربيا عاما، ويمني بشكل خاص بالأحزاب، لتحصل على موالين جدد ضد السلاطين.
وحين تجاوزها الأمر، وقامت الثورة، مولت الثوار حتى بعد انتصارهم.
تظاهرت برغبتها في مساعدتهم على بناء دولة، فيما كانت تريد فرصة لإخراج أموالها، وكل الرساميل التي تكونت في عهدها، ولم يقصر "الرفاق" في دعم ذلك.
أمّم الرفاق الممتلكات، الحريات، والأفكار. لم يبق متسع لغير لينين وماركس؛ حتى أن محافظ لحج يومها، عوض الحامد، نظم كتاب "رأس المالـ" لماركس شعرا. وحاول إرغام محمود درويش على مراجعته. كان درويش في عدن لمشاهدة التجربة الاشتراكية في اليمن عن كثب، فعاد وقد طلقها ثلاثا.
هل كان ماركس يحلم بكل هذا المجد لأفكاره؟ احد السوفييت علق ساخرا بعد جدل مع مجموعة من القيادات الحزبية في الجنوب: "إذا أنتم تفهمون الماركسية أكثر من ماركس".
"صانونة" ماركس!!
بعد سبع سنوات كانت عدن، مرة أخرى، مجرد ذكرى، وكوم من الجماجم والشعارات والمصطلحات.
"قسائم للجنة ووعود بالمن والسلوى، بس بعد أن نقضي على أمريكا وحلفائها وعلى (الثورة المضادة)" حسب "دفاتر الأيام" لفضل النقيب.
"دفاتر الأيام" مجموعة مقالات، أو مذكرات قلم جميل عاصر أكثر مراحل عدن بؤسا. سطور عطرة وخفيفة، لكنها تعجز عن مساعدتك على تجاوز الألم بين حروفها.
حتى ما كان موجودا في عدن تم تدميره، يتذكر "النقيبـ" أن جميع المصاعد في شارع المعلا الرئيس أجمل شوارع العاصمة توقفت، وخدمة إضاءة السلالم وجمع القمامة. وفقدت عدن موقعها الاستراتيجي كمحطة ترانزيت وإعادة تصدير عبر البحار، وأصبح حي ميناء التواهي الذي كان واجهة العاصمة البحرية، "مقفرا مثل مسرح روماني مهجور".
حياة الناس أقفرت هي الأخرى، كثرة الطوابير أمام مكاتب الجمعيات الحكومة التي قد تجبرك على أخذ الموز بدلا من الباميا أو الطماطم غير المتوفر. كما حدث ما شاعر عدن الساخر محمد سعيد جرادة.
قضى جرادة سبع ساعات في طوابير الجمعية للحصول على مكونات طبق "صانونة" عدني. اكتشف بعد كل هذا أن مكونات طبقه غير موجودة وعليه قبول الموز كبديل، خصوصا أنه لا سبيل لاستعادة ماله. وحين قابله صوت زوجته الثائر بسبب تأخره ألقى في وجهها أكياس الموز قائلا: "اعملي صانونة موز".
أصبحت عدن بأفكارها الجديدة قادرة على تبرير سفك دماء الصيادين لأن عملهم يبدو رأسماليا، فهم يصطادون لحسابهم، ويبيعون لحسابهم، ويكسبون من عرقهم.
عدن مدينة تتنفس الحرية، فمن أين أتتها كل هذه التصنيفات؟ فضاء المدينة رحب لا يساعد على الضيق بالآخر، فما الذي حدث؟
لهذا لا أحب السياسيين، فهم أكثر الناس قدرة على اختزال الواقع في عبارة وهمية، ولحوحين لأنهم يطالبونك بأن تعيش داخل هذا الوهم باعتباره واقعا. يبررون الدماء بالثورة، والثورة بالحرية، وقمع الحرية بالنظام، والفقر بالأعداء، والأعداء بحاجة إلى خونة، والخونة هم أنا.
وحين تصبح خائنا تكتشف أنه صار في وطنك أكثر من جيش، وفي مدينتك الصغيرة أكثر من "بوليس". وأنه لا شيء يزدهر أكثر من التهم وأنواع المخافر.
والسياسيين، مثلك، ينتظرون التغيير لإنقاذك. منذ الأزل والتغيير معطفهم المفضل.
مع فارق أن التغيير في شرعتهم لا يعني شيئا سوى ما يعتقدونه. أليس مجرد معطف؟ أليسوا من يرتديه؟
البالة والليلة البالة!!
يا لها من ذاكرة مثقلة بالوجع تلك التي زرت بها عدن للمرة الأولى، وكلما حاولت التخلي عنها غرقت فيها، حتى أني اشعر بمللكم خلف كلماتي!
لا بأس، فهي كلمات مشدوهة مثل صاحبها على حين غرة. اعتدت أن أفترض هامشا للمبالغة في كل ما أتلقاه، مثل مصل مضاد لخيبة الأمل حين تبدو الصورة مختلفة.
نجح المصل في تأجيل زيارتي لعدن حتى ديسمبر الماضي (2006)، أهملت حلما لم يؤجله غيري. وفي عدن اكتشفت أن المصل اللعين مغشوش، كأن وزارة الصحة استوردته. عدن التي رأيت مختلفة، عدت منها متيما بمدينة وأنا نادرا ما أعشق المدن، قد تدهشني، لكني رجل ملول "لا يعجبني العجب ولا الصيام في رجبـ"، كما كانت "نادية" رحمها الله تردد.
على مشارف "المدينة المجزأة" كما وصفها محمود ياسين في "مدن لا يعرفها العابرون"، عذرت دهشة من يكتشفون تأجيلي زيارة عدن كل هذه السنين، فمن يؤجل السفر إلى شيء كهذا؟
يعتقد البعض أنه حتى من لا يغادرون منازلهم زاروا عدن منذ 1990. الحمقى فقط لم يفعلوا ذلك، واعتقد أني لست آخرهم.
في الدكة، تاريخ لم يعترف بأكثر من جنسية واحدة لليمن، كما هي عدن كلها.
في الأولى تجمع اليمنيين بحثا عن وظيفة حمّال هربا من الفقر، وفي الثانية تجمع اليمنيين باحثا عن مقعد شاغر في مدرسة، أو عن حرية تسمح بتخطيط ثورتين.
الدكة هي أول ما يقابلك في عدن، أو أول ما قابلني. فيها صنفان من الرجال: إما تجار وإما حمالين. إنها المكان الذي "ملأ جيوب كثيرين وقوس ظهور كثيرين" حسب كتاب "مدن لا يعرفها العابرون".
يبدو أني لن أتوقف عن سرقة هذا الكتاب، فأنا مفتون بحروف صاحبه حد الهوس، كلانا يعاني من قدرة الأماكن الجديدة على إسقاط فكه السفلي اندهاشا.
إلا أن محمود ياسين يعود من أماكنه حاملا كل شخوصها وملامحها وكلماتها، إنه يرسم وأنا أتعلم الكتابة. سامح الله ذاكرتي الصدئة.
ذكرتني "الدكة" بأغنية "البالة"؛ أذكرها لأني سمعتها في الطريق إلى عدن، إنها ملحمة تدون تاريخ وطن.
لا أذكر كاتبها، لكنها على الأقل أجبرتني على التسليم بأن مغنيها، علي السمة، يستحق لقب فنان مقابل تحفته تلك.
إذا بالغت حاسبوا فكري قاسم. وحده يستطيع أن يريني ورقة بيضاء ويقنعني أنها أجمل لوحة في العالم.
"البالة" حكاية تعس يذكر أن أخاه كان تاجرا "أين ما جا فرش" حتى "جوا عسكر الجن شلوا ما معه من بقش" فهاجر الحبشة. إن وطنا يسرقني غير جدير بي. ثم يستشري وباء الطاعون، عام كان للموت فيه سبب واحد واسم واحد يردده وطن بأسره: "حبة الفنى"، اسم لموت حصد كثيرين. ومن حظ التعس النكد يموت أهله ويبقى وحيدا، يزرع الأرض ولا يحصد سوى روحه الثاوية. حاول الفرار من الفقر "بالبكر" تعلم ذلك من أخيه، حمل خبزه وريالين هما كل ما تبقى ولحق بكل الفارين من الجوع إلى موانئ عدن. فثمة ميناء بريطاني نشط وتجار، ثروة بحاجة إلى حمالين لتبدو ثروة. حتى الثوار لاذوا بفضاء الاستعمار حيث بمقدورهم ترديد شعاراتهم وكتابة بياناتهم وجنونهم. على الأقل اكتفى المستعمر باغتصاب المدينة. مفارقات يحتاج تفسيرها ثورة أخرى. فتش التعس في "الدكة وميناء عصبـ" عن ثقل بحاجة إلى ظهره ثم حين عاد خائبا "قالوا البحر قلت البحر وا سارية".
سياق القصيدة يتحدث عن ميناءين في الحبشة، وهذا ما يراه كثيرون. أما أنا وفكري قاسم فنريد أن نرى شيئا آخر.
لقد راقتنا الأغنية، وسحرتنا عدن، فأردنا ذلك متحججين بوجود الأماكن نفسها (الدكة وميناء عصب) في عدن، ولأن عدن طالما شكلت محطة مهمة للفارين من الفقر في بقية اليمن.
أما التعس في الأغنية، فقضى خمس عشرة سنة في البحر على مركب يوناني يحمل جلود البقر حتى غدا لونه بلون الفحم الذي يحشو به جوع سفينة قبطانها أعور "حازق الكبتنة" مثل قرصان.
البالة حكاية تعس أضنته الغربة خمسة عشر عاما، وحكاية وطن يدفعك لاحتمال كل هذا. وانهار التعس أخيرا فأجهش بالبكاء يردد: "الليلة العيد وانا عن بلادي بعيد".
وحين عاد اكتشف أن وطنه ما زال عالقا في الماضي، متورطا في شعارات ثورية، مشغولا عنه بثوار جدد، ما زالوا أيضا ينتظرون التغيير.
ثمن التطرف...
حين تكون قادما من الفوضى لا بد أن يربكك النظام، خصوصا أنه لا تدرج في الأمر، من صنعاء إلى تعز إلى عدن. من مدن لم تخطط أصلا إلى مدينة مرتبة.
لهذا لم استطع التخلي عن دليل طيلة الأسبوع الذي قضيته هناك. رغم أنها مدينة لا تسمح لك بأن تتوه، تأخذك من مكان إلى أخرى بالقدر نفسه من المتعة.
جربت ذلك ذات صباح وجدت نفسي فيه وحيدا بما أني مصاب بداء الاستيقاظ المبكر في الأماكن الجديدة.
رغبت في رؤية شروق الشمس في البحر. أخبروني أني لن أشهد ذلك إلا في "ساحل أبين". سلمت نفسي للطريق، مررت بكل الأماكن ووجدت نفسي في النهاية حيث أريد.
حتى الآن لا أدري من أين دخلت عدن وما ترتيب أماكنها، عجزت كما عجز محمود ياسين من "جمعها في وجدان واحد".
أقمت في الساحل الذهبي. مكان يبدأ في إدهاشك بعد الساعة الرابعة عصرا، حين تبدأ الشمس رحلة الغروب.
شاطئ هادئ، لا يبدو أنه يثور إطلاقا. يصبح آسرا بلونه الجديد مع مغيب الشمس، ينعكس على الأشياء فيمتد الذهب ليصبح كل الأفق، ينعكس على روحك فتشعر بالغبطة.
بالقرب منه ساحل العشاق، أينما وليت وجهة في عدن ثمة ساحل. وساحل العشاق نقي مثل حكاية عذرية.
أصبح مكانا مهجورا إلى حد ما بسبب طول قائمة المحرمات بعد 1990 على أيدي شباب عادوا من رحلة البحث عن "هوية" بفتوى تحرم كل شيء.
بعد 1990 استفادت الجماعات الدينية المتشددة من انفتاح النظام السياسي وتشكل الأحزاب السياسية والتنظيمات بمختلف مراجعها فبدأت في استقطاب الأتباع.
وكان شباب عدن بالتحديد والمناطق الجنوبية عامة لقمة سائغة، ذنبهم الوحيد أنهم انشغلوا بالبحث عن هوية ذوبتها أطول فترة استعمار، وحرمها نظام "ملكي أكثر من الملكـ".
لا شيء يتكاثر في عدن أكثر من هؤلاء، وأنت تجول بأماكن المدينة، وتدخل مساجدها تجدهم بشكل ملفت لا يمكن تجاهله.
حين عادوا من صعدة وأماكن أخرى، حملوا معهم هوية قاعدتها "كل شيء حرام إلا ما أباحه مزاج شيخ الطريقة".
كان الحب أول المحرمات وأقل ثمن دفعته عدن بسبب أفكار ضيقة هي آخر ما يمكنها قبوله، سرعان ما ارتفعت كلفة تطرف أنتج محليا لأكثر من سبب وبأكثر من أداة.
بينما تحلم عدن باستعادة مجدها القديم مع مشروع منطقة حرة أشبه بالوهم، وجدت نفسها مكانا غير أمن.
حادثتان أفزعتا عشاق عدن ومصالح وطن حتى بات نادرا رؤية باخرة تمر. ما الذي يفسر محاولة تخريب البيت الأبيض من عدن؟ خسرت واشنطن طلقة، ويا لفداحة الثمن! هذا إذا كانت نوايا إعادة أمجاد عدن جادة، ولا أعتقد أن ست رافعات حديثة أو سبعا دليل كاف، فكم رافعة في دبي؟!
عدن التي احتضنت مطالبتنا بالحرية، وسمحت لنا بالتفكير في الثورة، لا تتسع اليوم لمجرد كلمة حقوق.
نزيف الدماء هناك خلال كل الأشهر الماضية سبب آخر لنسيان أمر الجدية في استعادة أمجاد عدن.
معبد العشاق!!
في ساحل أبين قضيت معظم الوقت، أطول ساحل كما يقال، يمتد عشرات الكيلومترات من عدن حتى أبين شرقا. هناك تعلمت أكثر من حدث وأكثر من فكرة. شاطئ غير صالح للسباحة معظم الوقت، كما تحذرك على امتداده لافتات معدنية. ومكتظ بالزوار طوال الوقت، وبالعشاق نادرا. مكان خرافي للوقوف أمام جنون فكرة أنه لا حدود لشيء، فكرة يوحي بها امتداد الفضاء أمامك. مكان يفشي ذكريات تندم على كشفها بمجرد وصولك صنعاء.
ألهذا أنا مفتون بالبحر؟ فأمامه تصبح ذاكرتي أفضل من ممتازة حتى يخيل إليَّ أن بمقدوري تذكر يوم ولادتي، وتذكر أول نظرة ألقاها عليَّ والدان سعيدان بمولودهما الأول.
سحرتني أمواجه، قادمة في صفوف مكللة بالبياض، صوتها الصاخب، وهي مثل كتائب جيش راياته بيضاء، ما أحلى أن يغزوك سلام ولو في صوت هادر!
لا أدري من أين أتتني فكرة الرايات البيضاء، كيف لشيء يرمز للقوة أن يرفع رايات بيضاء؟ حسب تعليق صديق كان معي، ويحب أغنية "البالة".
أغاظني تعليقه، وربما مشاركتي له كل أسراري تحت إغراء بحر؛ فسألته: كيف تفسر كل العنف والدماء في عدن وهي من مدن السواحل الأكثر ميلا للسلام؟
يبدو أن البحر قادر على تعليمنا ما نريد، وإلا كيف استباح الرفاق دماء الرفاق!
شاب في عقده الثالث يعمل في إحدى استراحات كورنيش ساحل أبين، قبل أن يقفلها "الكحلاني"، يتقاضى بالكاد ما يسد الرمق، يقضي الليل يراقب البحر ليخبرنا في اليوم التالي كيف كان هائجا قبل الصباح. ينام ساعتين ليستعد لاستقبال الزبائن، لا يذكر منذ متى هو في عدن، يذكر أنه من محافظة شمالية، مثل معظم المتسولين الذين يقاطعون متعتك كل خمس دقائق. بعضهم بقي في عدن منذ كانت ملاذا من الفقر. وحين لم تعد في الميناء أثقال بحاجة إلى ظهورهم تسولوا. ربما تعلموا من البحر شيئا آخر، فالشاب لا يفكر بغد أبدا، مهما هاج البحر يعود للسكون، بقي البحر بحرا وصاحبنا اختصر الأمر فلا يحاول حتى أن يهيج.
أما أنا فما زلت مغتاظا من تعليق صديقي الذي كان معي على ساحل أبين، ويحب أغنية "البالة". بصراحة لم يكن مجرد تعليق، فهو لم يتوقف عن السخرية حتى غادرنا، لذا سأفشي لكم أحد أسراره.
بعد زواجه زار عدن لقضاء شهر العسل، وأمام ساحل أبين عجز عن مقاومة فكرة "تقليد الأفلام" والركض مع حبيبته، وحين فعل فوجئ بحشد يركض خلفه.
اعتقد أن بمقدوره عيش لحظة لم يسمح لها بتجاوز أحلامنا، أليس هذا ساحل أبين حيث بنى "العشاق معبد"؟ في اليوم التالي قال صديق آخر من عدن: "لقد هدمه الدحابشة".
صديقي العدني مصر على أن "الدحابشة" الذين أنا أحدهم، أفسدوا الحب على سواحل عدن. فهم لا يستطيعون رؤية رجل وامرأة يسيران معا دون إساءة الضن بهما حتى ولو كان طفل يهرول في أذيالهم.
حتى في ساحل أبين يمكنك سماع ما يزعجك.
صديقي العدني كان يقوم بدور الدليل بعد سفر فكري قاسم والآخرين، فلم أعارضه لأتمكن من العودة.
حاولت فقط إخباره بهدوء أن التقاء أكثر من فكرة وأكثر من ثقافة وأكثر من أي شيء تنتهي دائما إلى فكرة أفضل وثقافة أفضل وأي شيء أفضل.
"الدحابشة" مجرد احتجاج عدني مرده شعور بالغبن، بالتأكيد هو أفضل من "الكلاشنكوف".
حديثهم الدائم عن عدن مغتصبة، مطالبة بالباطل ليأتي المصيب.
يومها، ومثل كثيرين قبل أن تبدأ الأحداث الأخيرة، لم أستطع تقبل الطرح المثير للقلق، لكن ما يجري حماقة.
ما الذي قد تفعله حين تبعد من عملك، وحياتك لسنوات؟ حين تهمل ويلغى وجودك؟
لا يوجد أي عدل في أخذ أرضك الموجودة في قلب الحياة وتعويضك عنها بـ"جربة" في أبعد مكان عنها.
أن أعامل بإهمال لأني مسالم وصبور، فمن حقي أن أغضب، وأقول ما أريد.
اغتصاب الحقوق لا يلغيها، فقط، يتسبب في استعادتها بشكل سيئ. تحريم الحب جعل منه فعلا سريا يسهل استباحة عذريته.
من كان سيركض خلف صديقي وعروسه لو كان الحب جزءا من حياتنا؟!
وأين سنركض ونحلم لو استمرت قصور الأثرياء في غزو ساحل أبين الذي بقي حتى في أسوأ فترات عدن بعيدا عن "الفيد".
أن تحول أملاك عامة إلى ملكيات خاصة دون مسوغ ودون مقابل أمر مزعج في كل مكان.
احتاج الشعيبي إلى معجزة لإيقاف مد مزعج للمباني والمشاريع السيئة على ساحل أبين وغيرها من الأماكن العامة، هذا إذا سلمنا بأن الصدق صار اليوم معجزة.
في مدينة مسالمة لدرجة أن وجودك فيها متمنطقا "جنبية" يجعلك سببا وجيها للتقزز، يكفي أن يكون هناك مسؤول جاد فيتحقق الكثير.
غير أن هذا المد استعاد نشاطه، كما استعادت أشياء سيئة وقرارات خرقاء تجعل هذا المكان للرجال، وهذا للنساء بعد مغادرته. فلماذا غادر؟
عدن مكان يتقبل الأفضل أكثر من تقبله السيئ، في عدن مجتمع مسالم، يمثل أعلى معدل لأشياء كثيرة: التعليم المدنية والبساطة أيضا.
مجتمع لديه قابلية لاحترام النظام، هادئ بالفطرة مثل مدينته. لذا كان من السهل إزالة طبقة الغبار ليظهر وجه مدينة جميلة بالفطرة.
بالنسبة لي، لولا الشعيبي، والبحر لكانت عدن اليوم مثل أي مدينة يمنية أخرى، لديها عشرات الخطط والبرامج دون جدوى، مثل تعز مثلا الأكثر قربا من عدن وصلة بها.
تعز مدينة ثلاثة أرباع مثقفي اليمن هي اليوم مجرد صدمةتصيب القادم إليها بتاريخها المخضب بحناء والمتوج بـ"مشقر الكاذي".
لا عادت تعز مثقفة ولا أنيقة، مجرد احتضار لمكان قذر يعج بالفوضى وأعلى مستويات الهمجية. إذا كان القانون يتعثر في صنعاء فقد صلب في تعز.
بقي أن ندعو للشعيبي ليتمكن من مد يد المساعدة لصنعاء كما فعل في عدن، مع الفارق بين مدينة مسالمة وأخرى "روحها في النخر".
[email protected]
"دحباشي" في عدن للمرة الأولى (2-2).. مدينة كرَّست للحب ساحلين وألف معركة - محمد حسين الظاهري
2007-11-28