ما يزال كارل ماركس حاضراً في برلين عاصمة ألمانيا الاتحادية، لكن لا علامات ظاهرة على وجود ستالين، الزعيم السوفيتي الذي أوقف التوسع الألماني (النازي) عند مشارف موسكو، وزحفت قواته إلى برلين لتشارك مع قوات الحلفاء في اجتثاث النازية من معقلها في قلب أوروبا، قبل أن تجثم 5 عقود في الجزء الشرقي منها.
في الساعتين اليتيمتين اللتين خصصتا لصحفيين عرب مشاركين في برنامج مكتظ (21-26 أكتوبر الماضي) للتجول في العاصمة، مررنا في شارع كارل ماركس. كان أول شارع أعيد بناؤه بعد الحرب الثانية، آخذاً اسم ستالين.
لم يصمد ستالين طويلاً، فبعد أقل من عقدين على الحرب، وتماشياً مع المركز في موسكو حيث يقود خروتشوف حملة تطهير من الستالينية، قرَّر الالمان الشرقيون اطلاق اسم كارل ماركس على الشارع.
غير بعيد من كارل ماركس، يقع المركز الرئيسي لـ«سوني» في أوروبا، وهو أحد أبرز معالم برلين. ثم أشار الدليل إلى أحد المتاجر على الضفة اليمني من الطريق، وقال متفاخراً بأحد رموز ألمانيا الموحدة: هنا يوجد أشهر متجر شوكولاتا في برلين، حيث بوسعكم تناول 284 صنفاً من الشوكولاته. وفي قلب برلين تشهق كاتدرائية صممت على النمط الايطالي في عهد فريدريك الثاني الذي أرسل مهندسه المعماري إلى روما، مركز الكاثوليكية، لاتقان النمط الايطالي في تشييد الكنائس. بالقرب من الكاتدرائية توجد كنيسة لوثرية بناها البروتستانت الفرنسيون الذين فروا إلى برلين في القرن ال 17. تقع الكنيسة في ميدان جان درمه. «جانه درمة؟»، أوضح الدليل السياحي للضيوف الذين يعرفون الجندرمة جيداً(!)، بأن الفرنسيين هم الذين أطلقوا الاسم على الميدان. والكلمة بالفرنسية تعني الرجال المسلحون أو «رجال السلاح». وقد علَّق المترجم الذي يتقن العربية جيداً، بأن الفرنسيين ربما نقلوا الكلمة من أصدقائهم الأتراك في تلك الحقبة الدموية.
***
الأتراك أصدقاء ألمانيا في الوقت الراهن. وفي برلين توجد «استانبول الصغرى». كذلك يسمي الألمان الحي الذي يفيض بالاتراك، ونسبة كبيرة من هؤلاء أكراد، وهم قدموا إلى ألمانيا لأسباب محض اقتصادية خلال عقود ما بعد الحرب الثانية، وما يزالون يفدون إليها. والجيل الحالي من الأتراك فاعل و لديه 3 نواب في البرلمان.
التاريخ يطرَّز برلين من دون أن يثقلها. تهتدي به من دون أن يأسرها. تاريخها «معالم على الطريق» من دون تكفير أو هجرة. وعلى الطريق من جزئها الشرقي إلى الغربي يظهر ما تبقى من جدارها الشهير على الإسفلت في شكل سلسلة نقاط بيضاء متقطعة، لكأنها محض علامات مرورية.
من الباص حدَّق عشرة عرب في الاسفلت لخزن آثار أشهر جدار فصل بين جزئي أوروبا في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، فيما هم يستدعون جدراناً ترتفع على حدودهم وداخل مدنهم في غير مكان.
لا علامات على حضور عربي في قلب القارة العجوز، اللهم إلاّ محطة القطار القديمة، قطار الشرق السريع: نقطة انطلاق البضائع والمبعوثين والجواسيس والمستشرقين والمغامرين إلى بلاد الشرق في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.
لم يكن أي منا، نحن الصحفيين والصحفيات العشرة المبشرين بالعودة إلى الجحيم، سورياً أو عراقياً، كيما يستقل قطار الشرق السريع غادياً إلى دمشق أو بغداد. بقينا لصق مقاعدنا في الباص الذي خصص للمنتخب الياباني في كاس العالم العام الماضي 2006.
كان علينا أن نعاتب الأصدقاء الألمان، لأنهم لم يخصصوا لنا الباص الذي استخدمه المنتخب الأيطالي (بطل العالم) بدلاً من باص المنتخب الذي غادر البطولة في الدور الأول!
جدير بي أن أصارحكم، فعلى مدى الأيام الست التي أمضيتها في ألمانيا متنقلاً بين ثلاث من كبريات مدنها، وداخل هده المدن، لم تسنح لي قط فرصة ركوب سيارة مرسيدس. في بلدٍ يستقطر كل ذرة من أرضة وثمرة من أعنابه وخلية من أدمغة مواطنيه، طلباً للرفاه، في بلدٍ الاستثمار لا التكديس، لا مجال للعبث بالمال العام، وإذاً لا سيارات مرسيدس في خدمة ضيوف ألمانيا. استطراداً، لا تكاد ترى سيارات فارهة تتبختر في الشوارع.
والحاصل أن ألمانيا الدولة المصدرة رقم 1 في العالم، تحسن تسويق منتجاتها، وحسب أرقام 2004، فإن صادرات مرسيدس وحدها قُدرت ب142 مليار يورو! (أنا أيضاً لا أصدق).
***
تابعنا الجولة المسائية القصيرة بعد 3 أيام مضنية أمضيناها في حلقات نقاش وزيارات ميدانية إلى البرلمان والخارجية ومؤسسات إعلامية. وقد مررنا «تحت ظلال الزيزفون»: الشارع الذي كان يعبره ملك بروسيا عند خروجه من مقره لممارسة هواية الصيد خارج المدينة. وبلغنا بوابة النصر التي بنيت أواخر القرن الثامن عشر، ومنها خرج الجيش الفرنسي مدحوراً، على يد الجيش البروسي.
بروسيا؟ لم يبق من الاسم المتخم بالدلالات سوى الِعبَر. أمَّا بسمارك موحِّد ألمانيا في القرن ال19، بسمارك الذي ألهم القوميين العرب على امتداد القرن العشرين، فإنه لا يحضر كثيراً في ألمانيا، وكذلك بروسيا التي لم تعد حاضرة في السجلات الرسمية، لأن اسمها محمل بالدلالات السلبية كالنزعة التوسعية والمركزية والعسكرية.
عند بوابة النصر كان على «نايلة» أن تبتهج. فالصحفية الفلسطينية الناقمة على السياسات الاميركية وجدت أخيراً حلفاء حقيقيين في أوروبا. كان نفر قليل من المتظاهرين يقفون بالقرب من البوابة حاملين لافتات وملصقات منددة بالرئيس بوش الإبن وبالحرب على العراق.
انفكَّت نايلة من الدائرة العربية، وهرعت باتجاه مناهضي الحرب الأوروبيين، لتعبرِّ لهم عن امتنانها. كان «الشال» الفلسطيني مبعث فخار لها، وهي وقفت بعد يومين فقط أمام متجر ملابس في مركز العاصمة المالية لألمانيا فرانكفورت، لنلتقط صوراً لها. لكن بهجتها بالوجود الرمزي الفلسطيني لم تطل، فالشال لم يكن سوى صرعة (موضة) تستهوي المراهقين والمراهقات الألمان، ففي «اليوم التالي» كانت تشتبك في سجال حاد مع كريستيان روسلر - هانس المحرر السياسي في جريدة «فرانكفورتر الغمانيه زايتونج» إحدى كبريات الصحف اليومية. تحدث المسؤول في الصحيفة من دون أن يتفذلك شارحاً لنا السياسة التحريرية لصحيفته تجاه قضايا الشرق الأوسط، وبخاصة الصراع العربي الاسرائيلي. وهو أشار إلى وجود مراسلين للصحيفة في اسرائيل وتركيا فقط. هذان المراسلان يتوليان أيضاً تغطية القضايا في الدول الأخرى حين اللزوم.
سُئِل عمَّا إذا كانت تغطية الشأن الفلسطيني والعربي من قلب العدو الوجودي لـ«نايلة» منصفاً، فأجاب من دون مواربة: نعم، ففي اسرائيل يمكن للصحفي أن يتحرك بحرية، وهناك حيوية سياسية لأن اسرائيل من وجهة نظري الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة.
لم تتحمل «نايلة» مفرداته اليقينية، هي التي كابدت كثيراً قبل أيام في الحواجز الاسرائيلة داخل الضفة الغربية وصولاً إلى عمان محطة سفرها جواً إلى برلين. احتدت وهي تشرح عنصرية اسرائيل، وهمجية الجدار العازل: جدار القرن الحادي والعشرين الذي يذكِّر أنصار القضية الفلسطينية بسلفه جدار برلين. القضية الفلسطينية وجدت في مقر الصحيفة الألمانية مناصرين لها، من أقصى المشرق وأقصى الجنوب: موريتانيا واليمن. لكن الصحفي الألماني كان قد أعد نفسه جيداً للقاء صحفيين عرب. وهو قال إن انحياز صحيفته لاسرائيل لا ينطلق فقط من عقدة تاريخية (يقصد الهولوكوست)، ولكن أيضاً بسبب الإرهاب الفلسطيني والعمليات الانتحارية التي تستهدف المدنيين. (يمكن عزو الانحياز إلى تضافر عقدتين: «الهولوكوست» و«الإرهاب».
لم يكن الغرض من اللقاء إجراء منازلة حاسمة تقرِّر مسار الصراع الممتد في فلسطين بين المستوطنين والسكان الأصليين. وقد سُئل المضيف الصريح عن درجة اهتمام الصحيفة بالتحولات الديمقراطية في الشرق الأوسط وتطلعات شعوب المنطقة، على اعتبار أن من الظلم اختزال المنطقة في تغطية أحادية للصراعات الملتهبة في فلسطين والعراق.
كان لديه ما يفاخر به: نشرنا تقريراً عن منع السعوديات من قيادة السيارات، وآخر عن القات في اليمن. وكان على اليمني الوحيد في المكان أن يتجاهل عدسات اشقائه العرب التي تركزت عليه لالتقاط ردة فعله على الكرم الألماني.
***
إلى القات الذي وعدت منسق الفريق، الصحفي الحر ويليام بولوس، بجلسة شرقية باهرة في صنعاء القديمة التي سمع عنها، يحضر الاختطاف. ومعلوم أن النصيب الألماني من ظاهرة الاختطاف في اليمن كان وافراً. وقد أسهب مسؤول الشرق الأوسط في الخارجية الألمانية الذي لم يزر اليمن قط، غزلاً في اليمن، متكئاً على شهادات أصدقائه الذين عملوا فيها، وبينهم سفراء سابقون.
عدا ذلك يطرح الألمان سؤال الوحدة على طريقتهم. وفي حفل استقبال الصحفيين العرب في اليوم الأول لوصولهم، تدخلت الأقدار الوحدوية، فخُصص لليمني مكان بين إثنين: ميشائيل غراو رئيس شعبة العلاقات الثقافية والاعلامية مع بلدان شمال افريقيا والشرق الأوسط في الخارجية الألمانية وغيرت هاملر المترجم الألماني. والأخير يعرف اليمن جيداً، وسبق أن عمل أستاذاً زائراً في جامعة عدن قبل الوحدة، علاوة على زيارات أخرى إلى صنعاء وتعز وحضرموت كمترجم لوفود سياسية واقتصادية. وهو ذكرني بعرض الرئيس صالح الشهير غداة الوحدة اليمنية بتزويد «أصدقائنا الألمان» بخبراء يمنيين للمساعدة في تأسيس الدولة الألمانية الجديدة.
توحد اليمن في 22 مايو 1990. بعد 5 أشهر توحد الألمان. وقد صدر العرض الرئاسي اليمني في لحظة رومانسية (خاطفة)، كانت مطبوعة بالفخار اليمني بإنجاز وحدة سلمية بين اليمنيين. والآن فإن اليمنيين غارقون في ضرب من «الواقعية السفلية»، حيث الغرائز طالعة من كل مافي تاريخنا من فظاعات.
ابتسمت فيما يشبه الاحتواء المزدوج لكل من المترجم والدبلوماسي. لكن الاحتواء المزدوج سياسة ثبت فشلها في غير منطقة. وقد ابتدرني الدبلوماسي (هذه المرة) سائلاً عن إمكان انضمام اليمن إلى مجلس التعاون الخليجي. أجبت باقتضاب: أمر مستبعد في ظرف السنوات القليلة القادمة.
***
قبل توسل الانضمام إلى المجلس الخليجي يحتاج الوحدويون اليمنيون (أصحاب عروض تزويد الألمان بالخبرة، ومعارضيهم) إلى التدثر بالتواضع أولاً، ثم التفكير جدياً باستقدام خبراء ألمان يساعدونهم في تقويض جدران التشطير النفسي والثقافي والاجتماعي التي قامت بعد 22 مايو 1990، وتعالت بعد حرب 1994. وربما توجب أن يكون الدرس الأول مكرساً لـ«فن تفادي كوارث الماضي».
Hide Mail
اليمن وألمانيا: لمَ لا يكون الجنوب شرقاً؟ 1 - جندرمه ومرسيدس وشوكولاتا
2007-11-21