صنعاء 19C امطار خفيفة

"دحباشي" في عدن للمرة الأولى (1-2).. مدينة كرَّست للحب ساحلين وألف معركة

2007-11-21
"دحباشي" في عدن للمرة الأولى (1-2).. مدينة كرَّست للحب ساحلين وألف معركة
"دحباشي" في عدن للمرة الأولى (1-2).. مدينة كرَّست للحب ساحلين وألف معركة - محمد الظاهري
لا تنتمي إلى فوضى أدمنتها مدني. فيها لا تشعر بالغربة، تفاجأ بالصغار يهتفون: "ياعمو ياعمو أنت غلطان".
هذا لا يحدث كثيرا حين تسلك الطريق الخطأ في صنعاء، قد يقصفونك بحجارتهم، وإن لم يجدوها فألسنتهم تكفي.
لا ضير في مبادرة "عدن" بمخالفة مرورية، على الأقل أنت "دحباشي" قادم من آخر مدن تهتم لقواعد السير رغم أنها تمنحك "رخصة" مقابل مبلغ طائل.
لست مضطراً لتكلف ابتسامة أمام وجوه عدنية صغيرة ضبطتك مع لوحة معدنية تتشدق بالرقم واحد. فثمة مدن تتنفس السعادة مع هوائها، وأخرى ليس فيها ما يكفي من الأكسجين لتمويل ابتسامة.
فارق غريب بين مدن السواحل، ومدن الجبال.
في الأخيرة قد تفضل خوض معركة على أن تبتسم. وفي الأولى صدرك أوسع من فضاء.
منذ أطلق آدم سيف مسلسل "دحباش"، وسكان المرتفعات الأكثر ميلا للغضب اسمهم في عدن "دحابشة".
وأصبح رقم واحد في لوحتك المعدنية يرمز لحمق "دحباش" أكثر مما يرمز للعاصمة.
في عدن تكتشف كم هي بعيدة عنك، مثل تاريخ ميلادها. كل هذا لأن الكتب لا تجيد شيئا أكثر من إجادتها وصف الأشلاء.
تأتي عدن بذاكرة محشوة بسطور دامية، فيباغتك أنها مكان لا يصلح أرض معركة. مدينة خلقت للعشق، وكرست من أجله ساحلين.
رغم هذا اعتادت أن تكون ميدانا للموت في سبيلها، وكأنه شيء يرضي غرور سحرها.
منذ الأزل وهذه لعبتها المفضلة، تغري الغزاة والأنانيين ليموتوا في فوهة البركان القابعة داخله.
وديعة، وتاريخ اعتاد الدماء والمذابح. مانحة الثراء، وسفر من الفقر والإهمال. ملاذ للباحثين عن الحرية، ومقبرة من الكبت.
وفي كل مرة تقرر تغيير ثوبها عمت الفوضى، وفي كل مرة كان بمقدورها صناعة البخور لتزيل رائحة البارود، ربما لهذا السبب لديها أجود أنواعه.
تقصدها لأي سبب: لرؤية "جنة عدن" مثلا، التطفل على مكان جميل، البحث عن الثروة، الحرية، فيزاحم متعتك سؤال: عدن حرة، فلماذا ليست أكثر من "فيد"؟
 
الفرعون هنا
يعجبني حين أقصد السواحل انحسار الجبال وسجودها أخيراً أمام البحر، وفي عدن وحدها انتهت الجبال من السجود لتقوم بواجب الحراسة.
مدينة زرعت في فوهة بركان بعث ليحميها من الخلف فيما تحتضن عينيها البحر. أميرة دللتها دماء العشاق فمددت ضفائرها وأسلابها، وكثرت وصيفاتها لتغدوا أكثر من مدينة.
"أقدم ميناء حر" كل ما تتذكره المراجع. غازلتها سفن الفراعنة، رسا بريقها الذهبي في عيني عدن لأكثر من سبب.
حسب "عدن فرضة اليمن" لحسين شهاب. لاذت سفن الفراعنة بعدن للاحتماء من العواصف والرياح المعاكسة، أو للتزود.
وغالبا قايضت الذهب برائحة البخور، واللبان والمر والصبر وغيرها من السلع المقدسة في دين الأهرامات.
كانت ميناء وسوقا يقصد من كل الأرجاء بشكل استثنائي، منطقة حرة منذ الأزل لأن هذا ما يفترض بأجمل محطة بين تجارة الشرق والغرب.
يقال إن أقدم ذكر لعدن ورد في سفر "حزقيالـ" العائد للقرن السادس قبل الميلاد مع ميناء "قنا" في حضرموت المعروف عند اليونان. رغم أن هناك من ينسب المدينتين في السفر إلى الفرات.
وذكرت بعض نقوش المسند شيئا عن معارك دارت في عدن، أو من أجلها، وعن كونها أهم موانئ دولتي "سبأ" أو "ذي ريدان".
غير أن وقف الكتابة بالمسند على النذور والطقوس الدينية لا يوضح الكثير.
غزاها الأحباش ثم الفرس بعدهم. وأهم ما ذكر بشأن هذه المرحلة أن عدن كانت منطقة تجارة حرة لا يمنع فيها عرض بضائع التجار حتى يبيع الملك أو والي البلد تجارته، كما كان يحدث في كثير من الموانئ.
ولم تكن السفن في عدن تستقبل من ولاة المدينة أو حكامها، كما يحدث في غيرها، لاسترضاء التجار وأصحاب السفن، فهي بدون ذلك ملاذ أرباح التجار، كما هي مطمع خزائن الملوك.
وفي كل ما دون كانت عدن أسعد ما تكون وأكثر تألقا في فترات تمتعها بحريتها وانفتاحها.
ولم يغضبها ويفقدها سحرها أكثر من فترات محاولة احتكارها وإغلاق أبوابها، وبالطبع شهور يوليو ويونيو وأغسطس أيضا.
وكلما أصبحت أدوات الفتك أقوى أصبحت الأقلام أكثر دقة في التدوين. تتذكر الكتب أن نيران مدافع البرتغال دكت عدن أثناء حكم المماليك.
حدث ذلك عام 1505، بعد اكتشاف البرتغاليين طريق "رأس الرجاء الصالح" بسبع سنوات، حين قرروا السيطرة على طرق التجارة البحرية بين الشرق والغرب.
أراد البرتغاليون فرض طريقهم الجديد ليعود إليهم ما تحصل عليه مصر واليمن، وقد نجحوا إلى حد ما بتحويل البحر إلى وكر قراصنة، وفشلوا في احتلال عدن فاكتفوا بدكها.
دخلت عدن فترت حداد، حتى بعد تقهقر مخطط البرتغاليين واكتشاف صعوبة وصول الغرب إلى الشرق عبر طريقهم الجديد.
"رأس الرجاء الصالح"، رحلة تستغرق عامين قبل العودة، رحلة تفوت كل المواسم ليست مربحة.
وبسبب "رأس الرجاء الصالح" تعلم المال إدارة الحروب، أصبحت احتمالات الخسارة أكثر من فرص الربح فمول التجار أكثر من معركة ضد البرتغال.
لم تستعد عدن موقعها، ظلت حريتها مقيدة بأكثر من طريقة، حتى بعد تنازل البرتغال عن طريقهم المستحيل ومشاركتهم في تجارة البحر الأحمر وفرض شروطهم وإتاواتهم.
ولم يتغير الأمر كثيراً بعد سيطرة العثمانيين على البحر الأحمر، لقد خلصوا عدن من شروط برتغالية لا تعجبها، لكنهم شغلوا عنها بحروبهم في أوروبا وموانئهم في "الأبيض المتوسط".
اكتفى العثمانيون بتحويل عدن إلى حصن، أحاطوها بسور، واستبدلوها بـ"المخا" الأقرب إلى مركز حكمهم في صنعاء. كان بناء الأسوار والحصون هواية تركية بامتياز.
 
مطامع الأقوياء
احتل نابليون مصر، فانشغل البريطانيون بالبحث عن مخرج ينقذ تجارتهم من سيطرة الفرنسيين على السويس فباغتتهم عدن.
مدينة المفارقات، احتلال فرنسي في مصر يجلب مستعمراً بريطانيا وتحصل هي على حريتها. أية لغة تجعل الاستعمار رديفاً للحرية؟!
لم يحدث الأمر على هذا النحو المتسارع. ثمة حكاية كانت عدن بعيدة عن ذاكرتها بسبب تجاهلها عثمانياً.
تنافس الهولنديون مع البرتغال في البحر الأحمر، ثم الهولنديون مع البريطانيين، ثم الهولنديون والبريطانيون مع فرنسا.
ثلاث شركات هند شرقية: الأولى هولندية، والثانية بريطانية، وثالثة فرنسية، غير أن كل التنافس والمعارك بين الثلاث كانت من (أجل) السيطرة على البحر الأحمر.
كانت عدن منسية في هذا الصراع لغيابها طويلا، ذوت بسبب طريق الرجاء الصالح، وماتت مهملة داخل "حوش" العثمانيين.
صراع المال على طريق التجارة انتهى باحتلال الفرنسيين لمصر ليتخلصوا من سيطرة الإنجليز على تجارتهم، فاحتل الانجليز جزيرة "بريم" في مضيق باب المندب ليحتفظوا بسطوتهم على الطريق.
كانت جزيرة ملتهبة لا ماء فيها، غير صالحة، فغادروها يقودهم القبطان "هينس"، العاشق الجديد لمدينة أشعرته بالارتباك.
غير هينس تاريخ المملكة التي لا تغيب عنها الشمس وهو يحدق في عدن. أنقذ تاج صاحبة الجلالة من سيف نابليون الأول بونابرت. هناك مشكلة بين ملوك فرنسا والأرقام.
أرسل هينس ثلاثة ضباط لاستكشاف المكان، فعادوا بتقارير تصف هواية الأتراك، قال أحدها إن آثار الأزميل ما زالت موجودة في إحدى بوابات عدن التي نحتت في الجبل.
كانت الأسوار والحصون والبوابات كل ما حصلت عليه عدن من الأتراك، وأهمل البحر.
وجد هينس مدينة حصينة لها "بوابة" واحدة من الخلف نحتت في جبل متوج بسور، وبوابة قديمة في نفق مهمل. إنها ليست ساحرة فقط، بل مثالية.
كل الموانئ التي بناها غير أهلها زرعت في أماكن حصينة لحمايتها من أهلها، وكانت عدن حصينة بالفطرة، وساحرة بالفطرة، ومهمة بالفطرة، ومهملة أيضا بالفطرة.
وبقليل من الترهيب والترغيب تنازل فضل بن عبدالكريم العبدلي، سلطان لحج عن عدن التابعة لسلطنته.
يقال إنه فعل ذلك مقابل ديونه لبريطانيا التي لا تتجاوز 15 ألف وحدة من عملة سلطنته. هل هذا ما حدث!؟
ربما لم تكن عدن يومها أكثر من حطام، بقايا مدينة أتعبتها العزلة ودمرتها البطالة، لكنه ثمن بخس من أجل مدينة طالما دوخت زائرها.
في النهاية حصلت صاحبة الجلالة على معاهدة مع العبدلي دون الرجوع لعاهل اليمن عام 1801 تجعل من عدن مرفأ حراً لاستقبال بضائع بريطانيا.
يقال إن البريطانيين شعروا بعد انسحاب فرنسا من مصر بالمبالغة في ردة فعلهم باحتلال جزيرة بريم، فانسحبوا منها وبدأوا يفكرون في عدن التي وجدها هينس ونبش تاريخها.
حسب "اليمن الجنوبي" لعلي الصراف، وهو أفضل مصدر قرأته عن عدن: طلب عاهل اليمن عام 1801 من حكومة الهند البريطانية التوسط لتنظيم علاقته بصاحبة الجلالة في لندن.
كان يشعر بالقلق من تحركات بريطانيا في البحر لمواجهة فرنسا، وبسرعة أصبح لصاحبة الجلالة ممثل مقيم في صنعاء، كان أول سفير بريطاني في اليمن.
وبسرعة أيضا اقترح السفير الجديد على عاهل اليمن، توقيع معاهدة تجارية تمنح بريطانيا امتيازات في عدن.
رفض الإمام العرض، ولتبديد مخاوف صاحبة الجلالة وعد بمنع السفن الفرنسية من استخدام المرافئ اليمنية.
لم يثق البريطانيون بهذا الوعد، أو لم يكن هو ما يبحثون عنه، فتوجهوا إلى سلطان لحج للحصول على معاهدة دون الرجوع إلى الإمام، وهذا ما حصلوا عليه.
لم تكن المعاهدة سوى بداية، ما إن تحركت جيوش محمد علي باتجاه اليمن لاستعادتها حتى قررت بريطانيا أن لديها فرصة "مخاوف" لا بد من استغلالها.
لا فرق بين اليوم وأمس، الأقوى دائما لديه "مخاوف" يتذرع بها لتحقيق مسعاه، وفيما انشغل عاهل اليمن بمقاومة "الغزو التركي" كانت جلالة الملكة تفكر بأن مصالحها في عدن مهددة.
في نفس الوقت حاول سلطان لحج الابن التملص من معاهدة أبيه، استغلال ما يجري للتطهر من إرث قديم، فتورط في معاهدة أخرى جعلته يغادر عدن فراراً.
قدم العبدلي سنداً جيداً لمخاوف صاحبة الجلالة بأسر طاقم سفينة بريطانية في عدن "لفترة وجيزة". وليصبح الأمر مثاليا تدبرت بريطانيا حادث غرق سفينة ترفع علمها.
ورغم إنكار العبدلي تورطه في حادث إغراق السفينة إلا أنه قبل بمبدأ دفع التعويض. لكنه كان مطالبا ببيع عدن، أو اعتبارها تعويضا مناسباً لسفينة الملكة.
يقال إن العبدلي قبل تحت ضغوط التاج، بتسليم عدن في معاهدة وقعها في 22 يناير 1838، مشترطا أن تبقى له الوصاية على رعاياه فيها.
لم ترفض بريطانيا الشرط فقط، بل اعتبرته مبرراً لاحتلال عدن عسكريا. الأقوى هو دائما من يضع الشروط.
 
عودة عدن
طالما احتاجت عدن إلى عاشق يدللها ويقدر فرادتها، ويعاملها كمدينة "استثنائية ومفتوحة" لا تطيق البقاء في الظل. إن هذا ما يجعلها مدينة استثنائية أصلا.
ودائما كانت تسلم نفسها لمن يمنحها حريتها، لم يعْنِها يوما جنسية العاشق، لم تهتم بكونه غازيا ما دام لا يحبذ الاحتفاظ بها مثل كنز مدفون.
حصل البريطانيون على عدن لتتخلص من وحدتها، وتعيد بناء أنقاضها، منحها البريطانيون ما تريد، حتى وإن لم يكن من أجل عينيها، فمنحتهم كل ما لديها.
وغادرها العبدلي في 19 يناير 1839، فاراً من جنود صاحبة الجلالة، تاركاً قصره الذي كان يومها أجمل ما في المدينة، وأحد أجمل معالمها اليوم.
نقل البريطانيون إلى قصر العبدلي متحف الطويلة الذي أنشأوه في 1830 ليكون أول متحف في الجزيرة العربية.
كل ما في عدن مزهو بكونه الأول في الجزيرة، إن مدينة بهذا التاريخ تحتفظ ببدايات أشياء كثيرة.
مدن السواحل هي الأكثر قرباً من كل شيء جديد في العالم، وعدن لم تكن مجرد مدينة ساحلية.
إنها أول تورط للمال في حروب السياسة، وأول متحف، وأول مكتبة ودار نشر في الجزيرة العربية، مكتبة عبادي في سوق الطويلة تاريخ قائم بذاته.
جلب البريطانيون إلى عدن معالم عاصمتهم، ونظامها، وجديدها، وحتى حريتها، جعلوا منها مدينة، وحصلوا منها على ثروات كل المدن.
عزلها الإنجليز عن محيطها، كانت كل ما يريدون قبل أن يفكروا لاحقا في استغلال دلتا أبين وخصوبة لحج، فاكتفوا بتوقيع معاهدات حماية مع بقية السلطنات.
في 1954 كان لدى بريطانيا 90 معاهدة حماية، كل من أراد أن يصبح سلطانا لاذ بمندوب بريطانيا السامي.
كانت المعاهدات تعد بتقديم "الحماية للسلاطين والمشايخ من الأطماع الأجنبية" وفق مبدأ "حرض القبيلة الموالية على المعادية فلا تحتاج إلى قوات بريطانية".
وتنص أيضا على "مساعدتها (السلطنات) في الوصول إلى أعلى درجات الحضارة". ربما لتبرير فرض مستشار بريطاني على كل سلطان فيما بعد.
أما عدن فحصلت على أفضل فرصها حتى الآن، استعادة مكانتها، توهجت كما لم تفعل من قبل، وتغيرت بالقدر نفسه.
تغيرت ملامح المدينة، خرجت من فوهة البركان لتصبح أكثر من مدينة، استعادت موانئها نشاطها، وتكدست الشركات والأموال وفرص العمل.
تعلمت أكثر من جنسية وأكثر من ديانة فخسرت هويتها. وحصلت في المقابل على مدينة مسالمة ومتنوعة ومتحررة من كل أوزار "إذا لم تكن معي فأنت ضدي".
هوية جديدة ديانتها السلام وفطرتها الحرية، تفكر بأكثر من لغة، وأكثر من ثقافة. وبالتأكيد.. مطبخها أصبح خليطاً من أشهى نكهات الشرق والغرب.

إقرأ أيضاً