صنعاء 19C امطار خفيفة

القضية الكبرى الغائبة: الدولة المدنية

2007-11-07
القضية الكبرى الغائبة: الدولة المدنية
القضية الكبرى الغائبة: الدولة المدنية - أبوبكر السقاف
خرج غير قطر عربي من دائرة الاستبداد السلطاني بعد الحرب العالمية الأولى، واستقلت أقطار أخرى بعد الحرب العالمية الثانية، وفي الحالتين انتقلت هذه البلدان من الدولة السلطانية إلى دائرة السيطرة الاستعمارية الغربية، قبل أن تلفظ أنفاسها، ولعل هذا من عوامل تعثر الاصلاح والنهضة في بلداننا العربية إلى جانب عوامل أخرى.
بيد أن البلدان العربية أصيبت بوباء سياسي قاتل عندما بدأ بعض كبار الضباط فيها القيام بانقلابات عسكرية، وكان انقلاب بكر صدقي (1936) في العراق ثم انقلاب حسني الزعيم (1949) في سورية، وتوالت الانقلابات فيها لخدمة الثلاثي الامبريالي: بريطانيا وأمريكا وفرنسا. أدخلت هذه الانقلابات البلدان العربية في الدوامة التي غرقت فيها قبل ذلك بلدان أمريكا اللاتينية، باعتبارها منطقة نفوذ امريكي شمالي، وتتمثل هذه الدوامة في إلغاء السياسة، أي ممارسة الاستبداد العسكري، وأول شروط غياب السياسة إلغاء مدنيتها، فالسياسة مذْ كانت مدنية بامتياز، ومن هنا عقلانيتها وقوة المدنية والتمدين وبقية قسماتها الانسانية، التي خرجت بفضلها من مرحلة القوة العمياء إلى رحاب الحوار والنقاش والتداول تحت مظلة الالتجاء إلى الشعب وممثليه بغير أسلوب، وفيها جميعاً تدور السياسة على الرأي والمصلحة والمساومة والتوافق. وتتميز السياسة المدنية بأن برلماناتها ليست صورية، بل يصور التعدد فيها التعدد الاجتماعي في المجتمع، وهي إطار الصراع السلمي وموئل التضامن الاجتماعي والوطني لإعادة إنتاج المجتمع ودفعه في مسار التطور والتقدم.
ظن الرأي العام المصري والعربي أن انقلاب يوليو تموز1952 استثناء بين الانقلابات العسكرية العربية. وتبين بالتجربة المرة أنه لم يكن إلا طبعة منها، وكان أقسى ثماره هزيمة 1967 وطغيان أجهزة الامن السياسي على الحياة المدنية والسياسية والاجتماعية. ويمكن التفكير في الانقلابات الاخرى قياساً عليه حتى بعد اصرار محبيه على أنه تحول إلى ثورة، ولكن علينا أن نتذكر أن العالم العربي لم يعرف إلا ثورة واحدة: ضداً على الأجنبي إلى يومنا هذا. وأما الانقلاب العسكري في المتوكلية 1962 فإنه منذ 5نوفمبر 1967 أصبح جمهورية النظام القبيلي التي أسفرت بدون رتوش، فقد رحل جيش الحملة المصرية، وتم طرد ممثلي الأطراف غير القبيلية من الجيش والأمن في دورات امتدت من مارس 1968 الى أغسطس 1968، واستوت الجمهورية بعد ذلك علي جودي القبيلة، هادئة مطمئنة، وتوحدت بالجيش - الأمن، حتى أصبح التمييز بينهم صعباً، وهذه حال الحزب الحاكم، الذي فقد منذ البداية طابعه المدني السياسي، وتوحد بالأجهزة الامنية.
إن الحكم العسكري في اليمن الشمالي مُنح بصفقة الوحدة شهادة الوطنية (الزميل علي ياسين) والترشح للمشاركة في بناء وحدة تكون الثورة الثالثة، التي تتجاوز «الثورتين» السابقتين. والحال أننا أمام انقلاب عسكري في الشمال وثورة وطنية للتحرر من الاستعمار في الجنوب، وغابت الصفة المدنية اللازمة والضرورية فيهما لصنع التقدم الحاسم نحو النهضة الأولى بالتعريف، فالقبيلة ليست حاملاً تاريخياً للثورة حتى إذا أمكن تربيع الدائرة بمعجزة خارقة، والحزب على النمط الاستاليني الذي نُقلت صورته إلى الجنوب كان أبعد ما يكون قدرة على أن يوظف لإنجاز ثورة سياسية مدنية وبناء أنموذج، وما تحقق في واقع الجنوب كان استمراراً وتطويراً للمثاقفة السياسية والمدنية والحضارية التي جرت مع مؤسسات النظام الامبريالي، والمثاقفة تشترط طرفين، ولأن الحكم لم يكن مدنياً سياسياً رغم الحديث الطويل الممل عن دور الحزب، بل يقوم على تحكم الجيش -أي القوة الوحيدة المنظمة عسكرياً- في الشأن العام، تخلص الحزب -الجيش من دولته، كما يفعل طفل لم يستطع الاستمرار في التمتع بلعبته فهو إما يسلمها لغيره أو يقوم بتحطيمها، وقد قام الحزب- الجيش في أغبى فعل سياسي بالعمليتين معاً: فتسلم جيش القبيلة في الشمال دولة على طبق من دماء. وأكد الجيشان أنهما عدوان للسياسة المدنية والدولة المدنية، وسقط شعبا الجنوب والشمال ضحية سوء تدبيرها.
إن الدولة العسكرية هي الجرثومة القاتلة للسياسة التي لا تكون إلا مدنية، لأن الاستبداد نقيض السياسة وضد عليها منذ أن فند ارسطو طاليس دساتير اليونان قبل نحو 25 قرناً، وهذا هو الرأي الذي استأنفته مسيرة التطور في أوروبا بصعود الثورات البرجوازية الديمقراطية وفي شروط جديدة نوعياً أملاها التقدم المادي والفكري.
في مصر ألغى العسكر حكماً قائماً للأغلبية البرلمانية التي حازها حزب الوفد، ووعدوا بديمقراطية أفضل، وبعد محطات في العام 1954 أسسوا دولة الجند والمخابرات. وعندما خلا الجو لجيش القبيلة في الشمال وطَّدَ الحكم العسكري المتوحد بالقبيلة، غاية ومؤسسات وذهنية. وإذا ما ورد في أحد المقررات الدراسية في مصر أن حدود الدولة المصرية توسعت فشملت سورية، ثم تراجع عبدالناصر عن غزو سورية بعد الانفصال - التحرر، بعد نصيحة حكيمة قدمها محمود فوزي، فإن جمهورية القبيلة التي توسعت فشملت الجنوب، لم تتردد لحظة في شن حرب على الجنوب تحت شعار ثنائي لعين: الحرب على الانفصال والغزو الديني (المؤتمر والاصلاح)، فاستظلت الحرب براية وطنية غير موجودة وتكفير لا يملك ذرة من الحق والصدق خارج دائرة شهوة السلطة في أسوأ طبعاتها الدنيوية.
ارتفع قبل يومين الضجيج الدوري الذي يتلو كل مبادرة رئاسية*، وهي دائماً تجري في دائرة ضيقة نرجسية الطابع، يجلس هو في مركزها، ومن حوله من يحب، وهذا هو الانقلاب الثالث على دستور الوحدة، والتعديلات عليه تحتل المركز الأول في تاريخ التعديلات الدستورية، لأنها من فرط كثرتها وجذريتها تصبح انقلاباً لا تعديلات، وأطرف ما في المبادرة أنها تعده، أو من يحب، بعشر عجاف في الرئاسة بعد العام 2013.
إن الأقلية المغلقة، التي لا تحاور إلا نفسها، تفرط مع مرور الأيام في التمركز في ذاتها، لأن الذهنية القبيلية حصرية بامتياز، في جميع الثقافات.
إن أساس السلطة في الانقلابات العسكرية هو القوة، وبعد ذلك يُجلب الديكور وفقاً لشروط الزمان والمكان، فشعار حزب الوفد الذي صاغه الزعيم سعد زغلول طُرد من مجال التداول السياسي بعنف وفظاظة بعد 1952، فلم يعد «الحق فوق القوة والأمة فوق الحكومة» بل سرت جرثومة القوة في كل علاقة قائمة في ظل دولة القوة: بين الأفراد والجماعات، وهذا أساس الفساد والتدهور الخلقي في اليمن ومصر وسورية... الخ. لأن منطق العدل والقيمة الخلقية الذي يستند إلى حكم القانون وبراءة الحق من التحيز لا يسود العلاقات كافة، والعبث الدامي الذي يعصف بالناس والأرض والقيم في الجنوب منذ 7/7/94 لايحتاج إلى الشرح والتفصيل.
الجمع بين رئاسة الجمهورية ورئاسة الجيش هو أساس البلاء، وحجر الزوايا كلها في النظام العسكري، وهو ما يقاومه ببسالة اخواننا في الباكستان منذ عقود متطاولة، بعد أن أضعف العسكر البلاد سياسياً أمام خصومها، ونهبوا الثروات باحتكار جزء أساسي من النشاط الاقتصادي يقدره الخبراء بالمليارات. ويذكرنا بالمؤسسة العسكرية الاقتصادية في مصر بقيادة حسن ابراهيم عضو مجلس قيادة الثورة. وعندنا مؤسسة اقتصادية، إمتد خيرها الى الجنوب. إن البنى تتشابه في الأنظمة العسكرية في الدول السلطانية، التي تحتكر لا القوة: الجيش الأمن، بل ومصادر القوة: الاقتصاد، والمال العام، ويكون التفاوت في نسبة النهب، أي الاستيلاء على الثروة الجاهزة، من قبل الأقلية الحاكمة التي لا تصنعها ولا تساهم في انتاج شيء ذي بال في حياة البلاد. إنها تعيش على الريع وتكتسب بذلك استقلالاً نسبياً عن رعاياها، وهو مصدر أساسي من مصادر قوتها. والدولة الريعية نقيض الديمقراطية، لأن الصراع فيها مصدره التنازع على الثروة وليس على انتاجها وتقاسمها، ولذا تبدو لنا الدولة الريعية مالكة الثروة الوحيدة والقائمة على توزيعها أرزاقاً على الرعايا، وهذا أسلوب إدارة الدولة المفضل عندها، لأنه يضمن الولاء للسلطان. ويتم على هذه الشاكلة سد ميدان السياسة برتاج ثقيل، لا يسمح بأي نوع من التغيير إلاَّ من داخله، أي ينتج انقلاباً جديداً، أو من الخارج الغازي الذي يجلبه الاستعمار الداخلي.
إن المفاضلة بين النظامين البرلماني والرئاسي مع بقاء الجمع بين الرئاستين تمرين لفظي وتدريب غير مجد لملكة الخيال، لأن أي أنموذج غير منتج على قاعدة السياسة المدنية سيدور في فلك القوة/ «السياسة». ولذا كثيراً ما يكون الحديث المطول عن العوامل المتداخلة والمؤثرة في السياسة تغييباً أو تمريراً -وإنْ يكن أحياناً غير مقصود- للعامل الحاسم المقرر والمحدد لبداية ونهاية الفعل السياسي. وليكن حديثنا على سبيل المثال عن الانتخابات الرئاسية في أيلول الماضي، فتقرير الاتحاد الاوروبي شرح عيوب البغلة فيها، واقترح ونصح بتعديلات واصلاحات قيمة ومفيدة بما في ذلك عدم اعتبار نقد الرئيس جنحة أو جريمة..الخ ولكن ما لم يفطن إليه هو أن كل ما ذكره من خروقات وتجاوزات تقود إلى الجيش والأمن وبعد ذلك إلى الجهاز الحكومي الخاضع لتوجيهات الجيش والأمن، ويصعب فصل الجهاز الحزبي عنهما، لاسيما عن الأمن. أي أن كعب أخيلوس في «ديمقراطية» جمهورية القبيلة هو الجمع بين الرئاستين، ولكن التقرير لا يقترب من هذه القضية الغائبة رغم أن كل التقريرات يوميء إليها جهراً وأسراراً. لكن الصمت الاعظم عنها يأتي من أصحاب القضية: الأحزاب، التي خلا برنامجها رغم طوله وتشعبه خلواً يكاد يكون كاملاً من الدولة المدنية، والسياسة المدنية، وصنوهما العقلانية السياسية، أي الرشد والترشيد في إدارة المال العام والحكم... الخ.
يقال أحياناً إنه لا داعي لاستفزاز الجيش، وهذا يعني أن الجيش هو القائد الأعلى والكوكبة المحيطة به، مع أن في الجيش الضباط الصغار وينتمون طبقياً إلى الفئات الفقيرة، وفيه الجنود وينتمون إلى الطبقات الفقيرة المدقعة. الجيش تراتب طبقي جلي لكل من يريد رؤية واقعه. نعم لمن يريد. والانقلاب يزيف مصالح هؤلاء المضطهدين ومصالح إخوتهم في المجتمع.
إن الانتقال إلى دولة السيد الانقلاب كان نقطة تحول قاتلة لمسار السياسة في البلدان العربية، فكان بعث الدولة السلطانية عبر حكم الجند/ العسكر بكل أوزارها وإضافةُ أوزار عصرية تناسب عصر الامبريالية فالعولمة.
إن الرؤساء جميعاً من العسكر والاستثناء حالات غير حاكمة، حيث لبنان مثال على ما قبل الدولة وما دونها، حتى ملك المغرب يحكم بالجيش وباحتكار تعيين الوزارات السيادية، وبعد تجربة قصيرة في الحكم بالتراضي والتناوب والابتعاد عن مرحلة والده الدموية، هاهو «ضامن الدستور» و«أمير المؤمنين» الذي أخفق في التحول إلى ملك دستوري بعد وعد خُلب، لا يجد تحققه في الشروط القائمة بل في الخروج عنها وعليها. وهذه حالنا في اليمن السعيد، وفي شروط أكثر تدنٍ من حيث قوة الأحزاب والنقابات وتعقيدات القضية الجنوبية التي لايبدو لها في الأفق حلُ إلا بممارسة حق تقرير المصير، للخروج من وحدة الإلحاق ومن إهاب الدولة القبيلية العسكرية.
28/9/2007
 
* سأحاول في موضوع آخر إيضاح أن قرار حظر حمل السلاح في المدن، والحديث الملغز عن الحكم المحلي.. الخ محاولة لاستباق توقعات يفكر فيها حكماء النظام كلما شاهدوا استمرار صعود انتفاضة/ ثورة الجنوب يوماً بعد يوم، رغم تفاقم القمع والقتل والمحاكمات الصورية.

إقرأ أيضاً