مزيداً من التضامن مع علي حسين الديلمي - أبوبكر السقاف
يؤكد اعتقال علي حسين الديلمي في مطار صنعاء، وكان في طريقه إلى كوبنهاغن للمشاركة ضمن وفد يمني في ندوة تعنى بشؤون حقوق الإنسان. أنكرت الجهات «المسؤولة» في البداية أنه في رعايتها، ثم اعترفت لتضاعف الخطأ الذي ارتكبته، ليصدق عليها القول السائر أنها قدمت عذراً أقبح من الذنب من بعض الوجوه، فجرْياً على أسلوب أبلسة الخصم قالت إنه عضو في خلية إرهابية وتزامن اعتقاله مع مصرع الديلمي والربيعي، وهما من القاعدة فعلاً، وتؤكد أقوال ذويهم التي نشرتها الصحافة أنهما -لا سيما الربيعي- كانا على اتصال بالرئيس وبوكيل في جهاز الأمن السياسي وبقائد احدى الفرق العسكرية لم يسمَّ في أقوالهم، فمن الواضح أن الأجهزة من القمة إلى القاعدة تعرف رجال القاعدة معرفة جيدة. وهو ما تصفه الصحف الأمريكة منذ حادثة الباخرة كول بأنه إدخالهم في خيمة الاحتواء. ولذا تبدو تهمة الديلمي الذي ينتمي إلى الاسلام السياسي الزيدي، ويمارس نشاطاً علنياً في مجال حقوق الانسان، غير مناسبة بل وهي تجعل جرم اعتقاله مضاعفاً، اذ تنسبه إلى عقيدة لا يؤمن بها ثم تعتقله بها. ولكن هذا ديدنها كما يقولون. فقد كان «الشباب المؤمن» يُعتقلون بتهمة الانتماء إلى حزب الله، لأن شروط الأبلسة كانت تقضي بذلك منذ دخول «ج. ي» في نوفمبر 2001 ميدان الشراكة الرحب في مكافة الارهاب، بعد زيارة رئيس الجمهورية، أمريكا.
وفي أيام الحرب العدوانية التي شنها العدو التاريخي على لبنان أصبح رئيس البلاد متشيعاً يحب حسن بعد أن أمر بقتل حسين وهو أسير في نهاية حرب صعدة الأولى. ولذا ليس بمستغرب ان يكون اليوم الإنتماء إلى القاعدة هو الزي المناسب لمكافحة الارهاب أو هو صيغة دولية مناسبة لكل الأنظمة المحمية من قبل أمريكا، والتي جعلت محور سياستها الثابت تسويغ الحماية بقتل مواطنيها الذين يختلفون معها ومع أمريكا؛ ولذا فإن رفض هذه السياسة هو في وقت واحد مقارنة لتحالف قوتين تحاصر التطور السياسي السوي الذي يمكن أن يدخلنا العصر. وهاتان القوتان تجسدان في الممارسة أفصح صور نظرية التبعية في المستويين السياسي والاقتصادي. وقد كسرت بعض شعوب امريكا اللاتينية هذا الطوق في البرازيل وبوليفيا وفنزويلا لتستعيد استقلالها بعد اغتراب له طويل في تلال الكابيتول الأمريكية.
إن رفضنا ومقاومتنا هذه السياسة القائمة على الحماية والتبعية في هذا الأفق هو الذي يجب أن يكون نصب أعيننا، سواء أكان حدثاً سياسياً كبيراً مثل الحرب التي شنت على الشعب في صعدة، أم اعتقالاً علنياً لشاب شجاع اختار طريقة الدفاع عن حقوق الانسان منهجاً للجهر برفض السلطة الجائرة، واجتراح معجزة التضامن في شروط ديمقراطية مسلحة كشرت عن أنيابها في الانتخابات الأخيرة بحيث يتعذر اعتبار سفور انيابها إبتسامة كما في بيت شعر مشهور، إلا في تقدير عُبَّاد السلطة، الذين لا يسهون عن عبادتهم ابداً.
إن طبيعة النشاط السياسي وعلنيتها تجعل تلفيق تهمة السلفية الجهادية أمراً بالغ الصعوبة، لو كنا في بلد يلتزم بقواعد قانون الاجراءات، وحقوق التقاضي التي ينص عليها الدستور والقوانين. ولكننا أمام جهاز أمن سياسي غير مسؤول إلا أمام نفسه ورئيس الجمهورية، ويقدم كل مرة برهاناً جديداً على أنه فوق السلطات وأنه أبو السلطات كافة. وهذا الجهاز هو الذي يجعل الحياة اليومية للمواطنين في الجنوب والشمال استمراراً لحرب العام 1994 وحرب صعدة التي لم ينقض إلا عام وبعض عام على بشاعاتها وجنونها. وهذا قلب -قال به غير واحد- لقول كلازفتر المشهور: «إن الحرب استمرار للسياسة بوسائل أخرى».
وإذا كانت الحرب جحيماً مؤقتاً، فإن السياسة تجعل الحياة جحيماً دائماً، أو -بكلمة مدللة في المؤسسات الدولية- مستدامة. ومستوى تضامننا وشموله وحده قادر على شطب هذه الاستدامة من جدول أعمال السياسة، الذي لا بد أن تعاد صياغته لتبدأ مسيرة الأمل في هذه البلاد البشمة بالحزن والظلم.
إن محنة آل الديلمي ذات دلالة لأنها مرتبطة أشد الارتباط بحرية الضمير والرأي والحق في الجهر بهما وممارسة شرف الدفاع عنهما، فذلك وحده يجعل الحرية والحق سياقاً واحداً لا يتجزأ، ولا يمكن أن يتمتع بهما طرف ويحرم منهما آخر، أو يكونا إحتكاراً سلطوياً دائماً يضفي البريق الاعلامي على الجريمة والباطل والقبح.
كان الاعتصامان أمام النيابة العامة وقصر الرئاسة في الأيام الأخيرة من رمضان تضامناً مع علي حسين الديلمي، عملاً جميلاً. وضاعف جماله وبهاءه أن الشبان والشابات مثلوا/ مثلن معاً نحو 95٪_ من الجمهور. كان مشهد الفتيات، لا سيما اللاتي لبسن السواد، بهيجاً ومحزناً في الوقت نفسه، في حر الظهيرة، ولكنه كان يشير إلى طريق الأمل. من الواضح أننا نحتاج إلى توسيع دائرة التضامن: مدرستنا الوحيدة للدفاع عن كرامة الفرد أساساً للكرامة الجمعية وجعل حرية الفرد شرطاً لحرية المجتمع.
هددتنا الأحزاب في ايلول الماضي بالنزول إلى الشارع، وكلمة «النزول» راسخة في لغة الأحزاب، تقول ضمنا إنها -لا سيماالقيادة، في مكان علٍ، وليس كما قال أحد الزملاء القدامى في قيادة المشترك إنه لا حاجة إلى النزول لأنهم دائماً في الشارع، وهذا تخلص لفظي مرح لإحراج سياسي حقيقي طال الحديث فيه وعنه، بل لعله مقتل السياسات الحزبية في بلادنا. إن مطلباً لا يحشد له ولو جمهور صغير ولا يستحق مظاهرة حاشدة أو اعتصاماً طويلاً، لا يبدو في عين الرأي أو عين التجربة أمراً جديراً بالاهتمام. كما أن الحركة الجماعية للناس في سبيل شأن عام، فعل أخلاقي وتربوي بامتياز لها أثر حاسم في العمل السياسي الذي ينشد النجاعة القصوى.
كنت وما أزال منذ الستينيات معجباً بمواقف وآراء مفكر أمريكي شمالي يساري هو رايت ميلز، وكان من أوائل الذين تحدثوا عن الخيال الاجتماعي في علم الاجتماع الحديث. تنبه الرجل في وقت مبكر (العام 1944) أن بلاده مقدمة على إلغاء دور المثقف بوساطة طغيان شركات «صناعة الاعلام» ويصفه الراحل الكبير حقاً ادوارد سعيد بأنه «مفكر يتميز بالاستقلال الشديد والرؤية الثاقبة المشبوبة». وعندما أراد العثور على وسيلة مثلى لمقاومة الموجة القادمة وجد التضامن، «... ولذلك فلا بد من تركيز التضامن والجهود الفكرية في مجال السياسة. فإذا لم يرتبط المفكر بقيمة الحقيقة في الكفاح السياسي فلن يستطيع تلبية متطلبات الحياة الواقعية، بصفة عامة، بمستوى المسؤولية اللازم»(*). إن التضامن هو أول ما تطيحه السلطة في نفوس المواطنين. ولاحظت منذ ستينيات القرن الماضي أنه كلما زاد تضامن الناس قل جنون الاضطهاد في ذهنية التسلط، والعكس صحيح أيضاً.
4/11/2006
- هامش:
(*) «المثقف والسلطة» هو العنوان الجديد الذي اختاره محمد عناني لكتاب ادوارد سعيد «صور المثقف» في الانكليزية وهو سعيد في مجموعة أحاديث في محاضرات ريث الشهيرة التي تقدمها «بي. بي. سي» منذ الأربعينيات عندما افتتحها الفيلسوف برتراند رسل. قرر عناني مشكوراً نقل مؤلفات سعيد إلى العربية بما في ذلك ما سبق نشره، حتى يجعلها تنطق بالعربية كما قال في مقدمته لـ«الاستشراق المفاهيم الغربية للشرق».
تتميز ترجمته بالمتانة والوضوح وتجنب الحذلقة، فاستطاع توصيل الفحوى وإضفاء سلاسة على اللغة قليلاً ما يظفر بها المترجم لا سيما في الكتب الفكرية والفلسفية. صدر الكتابان عن دار رؤية، بالقاهرة، 2006. كلمات ميلز في الأول منهما ص57.
مزيداً من التضامن مع علي حسين الديلمي
2006-11-15