صنعاء 19C امطار خفيفة

الموسيقي الأعمى

2025-04-25
الموسيقي الأعمى
الموسيقي الأعمى(النداء)

"كان في عزفه أصوات الطبيعة، هزيم الريح، وهمهمة الغابة، وهدير النهر، ووشوشة غامضة تغنى في بعيد، وكان ذلك كله يتداخل ويدوي في إطار هذه العاطفة التي لا يمكن أن تجدد هذه العاطفة التي تنبسط لها الجوانح، وتولدها في النفوس لغة الطبيعة السحرية، أهي الحزن؟"، ص112.

الموسيقي الأعمى" للروائي، فلاديمير كورولينكو

 
**
في يوليو 2022، زرت مدينة "هايدلبرج -Heidelberg" ذات الجمال الآسر بمعمارها القديم والحديث، وكأنك تعيش في قلب الأساطير، ونحن نتمشى في قلب المدينة الملونة، كان أحد خطوط ذلك الجمال، صوت موسيقى هادئة تتناهى إلينا من بعيد، عزف وتري حزين، وأنا أتجه نحو ذلك الصوت، إذا بي أرى شابًا يعزف على آلة وترية قديمة، في تلك اللحظة كان يعزف مغمض العينيين وبرأس منحنٍ للأسفل، وأنا أصغي إلى الموسيقى، وفي انتقال مقطعي، إذ به يرفع وجهه الناعم بعينين صغيرتين وبؤبؤ أصغر، لقد كان أعمى. تملكتني مشاعر كثيرة متداخلة ما بين حزن وألم، وإعجاب بالقوة التي لم تجعل ذلك الشاب ينكفئ ويغدو أسيرًا للعمى الجسدي والنفسي، وعرفت بعد البحث أن تلك الآلة تسمى "أرهو" الصينية.
شاب أعمى وهو يعزف  على آلة
في صورته وتنقلات أصابعه بين الأوتار، انسابت بعض ألحان حزينة، وحالة من التأمل والذوبان في الموسيقى تفصل بينه وبين حركة المارة في الطريق وأصوات الناس في المقاهي وأجراس الكنيسة المجاورة... الخ. في الوقت نفسه كانت أوتاره تحاكي الفضاء حركة ورائحة معًا: الناس والقلعة والكنيسة والسوق، والزهور والأشجار، وحركة النهر والقوارب والريح، وقعقعة الأحذية على الأحجار، المقاهي، الضحكات، الهمهمات، الموسيقى في أماكن أخرى... كم الإحساسات البصرية في صورة جسده، وهو يمايل رأسه، واتجاه بؤبؤ عينيه، وملامح بين الهدوء والصمت، وقليل من غضب، والكثير من الحزن، كل هذه العلامات ترتسم على وجهه بتقاسيم تتداخل وتنفصل معًا، وكأنك تشاهد لوحات فنية لمشاهير الفن التشكيلي العالمي.. كل ذلك البهاء النوراني والتعجب أيضًا، ذكرني بصورة الطفل "بطرس" في الرواية التأملية "الموسيقي الأعمى" للروائي الأوكراني، فلاديمير كورولينكو، وترجمة سامي الدروبي، التي قرأتها قبل سنوات، أعادتني لكثير من التفاصيل، تشكلات الصورة والموسيقى، وجعلت صورتيهما تتماهيان، مكونة: الموسيقي الأعمى، جعلني اقرأ الرواية مرة أخرى.
صورة بطرس الأعمى مع شبابة -ناي "بيوكيم" خادم الأسرة، وبعد ذلك البيانو، ومع صورة عازف الأرهو الأعمى، والعشرات من الموسيقيين الكفيفين في العالم، الذين سجلوا عشرات الأعمال الخالدة، كيف كانوا في طفولتهم ينشدهون بحسهم المرهف للأصوات والطبيعة، بل حولوا الظلام والنور إلى أصوات، ويصنعون من المحيط حيوات متجددة بالموسيقى.
 
أحسست أن المعاقين هم نحن، وليس عازف الأرهو في هايدلبيرج، كيف ينتصر على الألم بالموسيقى، بالإنجاز، هو لم يصل إلى العالم، ولم يزاحم الشاشات والفنانين، ولم تفتح له المسارح، وإعجابات مليونية على وسائل التواصل الاجتماعي، هو يصيغ النور والبصيرة في ذاته، ويحتفي بالوجود بموسيقى، تلك اللحظة لرنة الوتر، هي العالم الذي يبصره، صدق من قال: "العينان مرآة النفس"!
والرؤية موسيقى
أنا أعزف، إذن أنا موجود..
 
**
مقطع من رواية "الموسيقي الأعمى":
"كان الأعمى الصغير، إذا انبثقت بين أصابعه نغمة فرحة
واضحة من السلم الموسيقي العالي، رفع وجهه المشرق كأنه يتابع طيرانها الخفيف في الهواء، أما إذا طلعت اهتزازة ثقيلة لا تكاد تدرك، صماء، من السلم المنخفض، اتجه بأذنيه إلى تحت، كأن النغمة الثقيلة لا بد أن تنتشر على سطح الأرض، وأن تتفرق وتغيب الزوايا المظلمة".

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً