صنعاء 19C امطار خفيفة

عبدالله الشرفي ومكتبة مركز الدراسات.. المكتبة كائنٌ ملتبسٌ ببهجة الحياة وغبارها

عبدالله الشرفي ومكتبة مركز الدراسات.. المكتبة كائنٌ ملتبسٌ ببهجة الحياة وغبارها

علاقتي بمكتبة "مركز الدراسات والبحوث اليمني"، تمتد لأكثر من ثلث قرن، وأعتبر محتوياتها من الكتب والدوريات، من أهم أدوات تكويني الثقافي والأدبي، فمن مقتنياتها قرأت عشرات الكتب في الأدب والثقافة والتاريخ، ومن قسم الدوريات فيها، استعنت بمحتويات عشرات الصحف والمجلات والمطبوعات الدورية في ما أبحث وأكتب. هذه المكتبة لم تزل حتى الآن موردًا ومعينًا لمئات الباحثين والدارسين والقراء، الذين يجدون مبتغاهم في قرابة 40 ألف عنوان، موزعة على 150 ألف نسخة موضوعة على الرفوف الحديدية العتيقة، واستطاعت، هذه المكتبة، الصمود والاستمرار في تقديم خدماتها للباحثين والقراء في أحلك الظروف وأشدها قسوة.

 
طيلة هذه السنوات لم أعرف غير "عبدالله عبدالواحد الشرفي"، ببنيته الصغيرة ووجهه الصارم الودود، أمينًا للمكتبة، ولم أجد من هو أحرص منه على محتوياتها من الكتب والدوريات والرسائل العلمية التي تودع في المركز، من الفقد والتلف. إذ عمل منذ تسلّمه لها قبل 47 عامًا (1978)، على الإضافة إلى محتوياتها من الكتب والمطبوعات، الكثير جدًا، بالرغم من الصعوبات الكبيرة والكثيرة التي اعترضته.
 
في معارض الكتاب كنت أراه مثل نحلة نشطة، يجمع العناوين في شتى مجالات المعرفة التي تحتاجها المكتبة، ومن كل الناشرين تقريبًا، ويتعهد شخصيًا بدفع فواتيرها قبل أن تصل مخصصات "وزارة المالية" الشحيحة لهذا الغرض. وكان يظل بعد ذلك لأشهر طويلة يتابعها في الأروقة البيروقراطية، حتى يظن الجميع أنه لن يكررها مرة أخرى، لكنه يفعل الأمر ذاته في المعرض التالي بكل حماس. لا يَملُّ ولا يتذمَّر من العمل الذي يحبه، وحتى اليوم لم يزل المركز مدينًا له بمبالغ ليست صغيرة، كما قال، قام بتقديمها لشراء الكثير من العناوين التي أحسَّ وقتها أن قارئًا ما سيحتاجها، وعلى المكتبة واجب توفيرها له.
الكاتب وإلى جواره عبدالله الشرفي
منذ 12 عامًا لم تعد تقام معارض كتاب في صنعاء، والتي كانت أحد المصادر الرئيسة لتزويد المكتبة سنويًا بالعناوين الجديدة التي تجدد من شريانها، لهذا صار حينما يسمع الآن أن هناك كتابًا جديدًا صدر لأحد المؤلفين اليمنيين في هذه الظروف، يعمل بكل الوسائل للحصول على نسخ منه. وحدث معي قبل عام تقريبًا، أنه سمعني أتحدث للدكتور علي محمد زيد بحماس عن كتاب وثائقي ألفه الدكتور يحيى قاسم سهل، عن المجتمع المدني في عدن بين 1839 و1967، ولم يكن موجودًا في مكتبة المركز، فألحّ عبدالله الشرفي على أن أُحضره له لتصويره، وإضافته إلى محتويات المكتبة. وحين أقنعته بصعوبة تصويره لحجمه الكبير (963 صفحة) وغلافه المقوى، وأنه سيكون عرضة للتفكك عند تصويره، طلب مني التواصل مع المؤلف لتزويد المكتبة بنسخ منه، وفعلًا تواصلت بالدكتور يحيى سهل من تليفون المكتبة، والذي بدوره تحمس للفكرة، وأرسل مع أحد أقربائه من عدن نسختين من الكتاب، ونسختين من مجمل مؤلفاته القانونية والثقافية، لمكتبة المركز، امتلأت بها حقيبة متوسطة. أما الكتب النادرة وغير المتوفرة في المكتبة، فيعمل عبدالله بكل الطرق على تصوير نسخ مطابقة منها، حتى تكون في متناول القراء والباحثين.
يحتفظ عبدالله في خزانة خاصة بالكتب النادرة، وذات النسخة الواحدة، ولا يعيرها إلا للموثوقين جدًا، ولا ينسى أن يسترجعها مهما كلفه الأمر، حتى لو وصلت إلى حد الخصومة مع من أعارهم من ذوي المكانة من أصدقائه القريبين؛ فالمهم لديه أن تعود الكتب إلى رفوفها الأصلية، ولا تبقى في رفوف المكتبات الشخصية للمستعيرين.
 
في انتقالي الأخير إلى مسكن بديل، فقدت كتابًا كنت استعرته ونسيت إرجاعه في موعده، وعلى الرغم من أن لهذا الكتاب نسخًا أخرى في رف المكتبة، لم يقبل ثمنًا له، ولم يقبل تصويره لوجود نسخ أخرى منه، مقترحًا تسوية ما، وهي أن أقوم بتزويد المكتبة بأكثر من عنوان من العناوين التي لدي، وليست موجودة في مكتبة المركز، فرفعت احتجاجي للصديق قادري أحمد حيدر، فقال ضاحكًا: "هذا حكم صاحبك الشرفي، وإن كنت لا تريد الدخول في قائمته السوداء، عليك بتنفيذ طلبه"، فقلت له إني منذ أيام أهديت مكتبة المركز، وعن طريقه، مائة دورية وكثيرًا من العناوين المكرورة عندي أثناء تصفية مكتبتي قبل النقل، فقال: "هذا لن يجدي معه"، فاضطررت، وبمساعدة قادري، أن أزوِّد المكتبة بكتابين من مكتبتي، وكتاب واحد من مكتبة قادري نفسه، بعد تأكد "الشرفي" من جهاز الكمبيوتر الخاص بالمكتبة، أنه ليس للكتب البديلة عناوين على الرفوف.
 
لديه قائمة سوداء بكل الأسماء الذين استعاروا من المكتبة ولم يعيدوا ما استعاروه، بمن فيهم أسماء معروفة جدًا، من داخل المركز ومن خارجه، ولا يتردد بإحراجهم أمام الآخرين، وتذكيرهم بما لم يعيدوه من الكتب المستعارة؛ فهي مثل أولاده كما قال لي مساعده محمد علي زيد، الذي هو الآخر يستحق ثناء خاصًا، لما يقوم به من جهود في بقاء المكتبة مفتوحة أمام الباحثين.
 
الكثير من القصص التي سمعتها عن تعقّب الشرفي للكتب المفقودة، وحتى تلك المنهوبة من قبل أسماء معروفة، واستطاع كشفها، مسببًا القليل من الإحراج لأصحابها. لكن الأطرف من كل ذلك، هو أن ختم المكتبة الذي يوضع "حبره الأزرق" على صفحات الكتب الداخلية والبارزة، للتعريف بملكيتها العائدة للمركز، يكون على الدوام فوق مكتبه الحديدي البسيط، والذي يستقر خلف الباب الخشبي القديم والصغير الذي يُدلف منه إلى الداخل، وأن أي كتاب يُوضع على المكتب أو الطاولة القريبة منه، سرعان ما يُعلَّم بهذا الختم، حتى وإن كانت ملكيته تعود لزائر نسيه بالخطأ على الطاولة، وفي هذه الحالة يصير الكتاب المختوم من أملاك المكتبة، ويدخل ضمن محتويات عهدتها، ولا يمكن خروجه إلا باستعارة رسمية وموثقة في السجل، وكروت الاستعارة الخاصة.
 
عمل لأشهر طويلة، في نهاية تسعينيات القرن العشرين الفائت، في تكوين مكتبة "اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين" من الصفر تقريبًا. فبعد أن قام الأستاذ محسن العيني وآخرون بتجهيز الدور الثالث من مبنى الاتحاد في صنعاء، ليكون مكتبة عامة، استعان الاتحاد بعبدالله الشرفي، أثناء تسنم الشاعر الراحل محمد حسين هيثم الأمانة الثقافية للاتحاد، لفهرسة وتصنيف الكتب، وتدريب الموظف المختص بالمكتبة. كان يعمل لأوقات طويلة بحب لا نظير له، وكأنه يعمل في ممتلكاته الخاصة، وقَبِل في نهاية عمله بمبالغ زهيدة جدًا مقابلًا لأتعابه الكبيرة، وظل يتردد على المكتبة لأشهر أخرى، يتفقدها، ويرى ثمرة تدريبه للمختص، وكان دائم السؤال عن الجديد فيها كلما أبصرني في المركز.
 
له خزنة خاصة لبعض رهونات الطلاب والطالبات من بطائق شخصية أصلية، ومبالغ مالية زهيدة وقليل جدًا من المصوغات، لكن الأهم هو وجود جواز دبلوماسي أحمر بين تلك الرهونات، وهو لواحدٍ من الأسماء السياسية المعروفة. قلت له: كيف وصل إليك هذا الجواز؟ فقال إن "صاحبه جاء إلى مكتب رئيس المركز حينها، فاستدعاني الدكتور المقالح، وقال لي: الأستاذ يريد استعارة بعض الكتب من المكتبة، وسوف يعيدها بمعرفتي، فقلت له: عليه أن يضع رهنًا، فقال الأستاذ -الذي سبق أن استعار بعض الكتب ولم يعدها- إنه لا يحمل نقودًا، لكنه سيضع جوازه الدبلوماسي، فقبلت إعارته الكتب على ذمة الجواز، وحينما يعيد الكتب كاملة سيعاد إليه جوازه".
 
يحدث أن تطلب من عبدالله الشرفي، كتابًا محددًا، ومباشرة يذهب إلى موضعه على الرف، حسب الفهرسة المنقوشة في ذهنه، ويعود به، وإن تعذر عليه، يعود لجهاز الكمبيوتر للتأكد من رقمه وتصنيفه الحقلي، فيأتي به، وإن لم يجده في موضعه، يعود للتأكد من عدد نسخه، وإن تيقن أنه معار بكل نسخه، لا يهدأ حتى يعرف مستعيريه؛ المهم أنك لا تخرج من عنده إلا وأنت مزوَّد بمبتغاك، أو أين ومتى ستجده؟
قبل أسابيع احتجت لقراءة رواية "طيف ولاية" للكاتبة عزيزة عبدالله، لإنجاز شيء في سياق دراسة عن موضوع الهجرة في الأدب اليمني المعاصر، فاتصلت بمساعده محمد زيد للبحث عنها في الجهاز، فلم يجدها، ووجد بقية مؤلفاتها. ذهبت لدار الكتب في التحرير، ولم أجد الرواية، ولم أهتدِ لشخص يوصلني بمخزن دائرة التوجيه المعنوي التي طبعت الرواية قبل قرابة عشرين عامًا. اتصلت بأكثر من صديق ظننت بوجودها عند أحدهم ولم أحقق مبتغاي. بعدها بأيام ذهبت للمركز ووجدته. سألته عن الرواية، فقال: "موجودة". لم تكن ظاهرة في القائمة الرئيسة، فبحث عنها في قائمة أخرى ضمن المكتبات الشخصية التي أهداها أصحابها أو ورثتهم للمركز، وبالفعل وجدها ضمن كتب مهداة من إحدى الأخوات لمكتبة المركز.
 
منذ أشهر يعمل على تجهيز مكتبة خاصة باسم الدكتور أحمد علي البشاري في رواق المركز، بعد أن تكفلت أسرته ببناء حُجرة زجاجية على صفوف من الطابوق الأحمر، وبداخلها دواليب خشبية لعرض مكتبة وزير المغتربين السابق الذي توفي مطلع الألفية، مخلفًا وراءه مكتبة ثرية، فآثرت أسرته نقلها بكل محتوياتها إلى المركز، وأتاحت هذه العملية لعبدالله الشرفي، أن يجدد نشاطه بفهرستها وتصنيفها بمزاج شاب مقبل على الحياة بكل مباهجها.
 
هو الآن في الثالثة والثمانين من العمر تقريبًا (من مواليد محافظة ذمار في العام 1942)، ومع ذلك لم يزل يحتفظ بحيويته كشاب فتي، وذهنية متقدة كعالم حساب. والمكتبة والكتب، بما تحمله من رائحة السنين وغبارها، هي من تجدد روحه كما قال، وإن اليوم الذي لا يحضر فيه إلى المركز والمكتبة، لسببٍ قاهر، لا يعدّه من أيامه الحميمة. الجميع يفتقدونه حين يغيب، ليس روّاد المكتبة والمتزودين منها فحسب، وإنما أيضًا أولئك الذين اعتادوا الاستدانة المالية منه على ذمة مستحقاتهم ومرتباتهم المقطوعة. لا يُرجِع أي شخص خائبًا وخالي الوفاض إن جاء يطرق بابه، حتى أولئك الذين يهملون ديونه وقت استلامهم لمعاشاتهم، ويضطرونه لملاحقتهم مثل "مُشارع" قليل حيلة وبائس.
 
كلفني الأمر وقتًا طويلًا جدًا حتى ألتقط له صورة، واحتجت لأكثر من صديق لإقناعه، كان آخرهم الأستاذ أحمد صالح الجبلي، رئيس دائرة الدراسات الاجتماعية في المركز، والذي استخدم كل أساليبه في الإقناع، حتى رضخ "الشرفي" أخيرًا، لأن تصويره والكتابة عنه، أمر ليس ذا أهمية من وجهة نظره، لأنه كما قال، لا يؤدي غير واجبه، وما يمليه عليه ضميره كموظف، جاء إلى المركز في ذات اليوم الذي جاء به شاعر اليمن الكبير الراحل الدكتور عبدالعزيز المقالح رئيسًا له. وبالنسبة للكتب، كان يتعامل الشرفي مع الدكتور المقالح مثل أي قارئ وباحث في المركز، ويقول إن الكتب التي يستعيرها الدكتور ينبغي أن تعود بمواقيتها، وإلا صار اسمه الكبير ضمن الـ"Blacklist".

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً