صنعاء 19C امطار خفيفة

ملاحظات على هامش قراءة قادري أحمد حيدر على بياني انقلاب نوفمبر ٦٧م

نشرت صحيفة "النداء" في زاوية رأي، قراءة للأخ قادري أحمد حيدر على البيانين العسكري والسياسي لانقلاب الخامس من نوفمبر ٦٧م، ولكونها جاءت كما ذكر متأخرة بأكثر من نصف قرن على الانقلاب الرجعي ذاك، فقد وددت القول بأنها في تأخرها قد يعدها بعض الباحثين في التاريخ، والمهتمين بكتابته، بأنها كافية كحد أدنى لتوفير أحد الشروط التي تمكن من يبادر إلى الدراسة والبحث والاستقراء ومحاكمة النصوص وغيرها بحياد متحرر من تأثير العواطف، وضغوط المعتقدات والانحيازات أيًا كانت، وتتجنب الأخذ بسرديات تمجد الذات على حساب الحقائق والتضحيات.

 
ولكم تمنيت لو أن جهود المهتمين والباحثين قد توجهت منذ عقود خلت للاهتمام بدراسة حالة المجتمع بكل مجالات حياته وأنشطته، وما أثرت فيه من الظواهر في تاريخه الحاضر والمعاصر، مع الاهتمام بتوثيق وتقييم التجارب من قبل المختصين والمسؤولين عنها أيضًا، لنساعد أجيالنا المتعاقبة على استلهام ذاكرة مجتمعية عامرة تمكن من أخذ الدروس والعبر، وغير مهشمة، وصالحة للبناء عليها.
 
إن من حق الأجيال الحالية والقادمة أن تمتلك المعرفة اللازمة بتاريخ مجتمعها وأمتها.. وكذلك كل ما قدر لها أن تعيش بين ركام تجاربه، ورماد الصراعات التي سيجت آثارها حياته، وحاصرت خياراته.
 
وإذا كان هناك ما يمكن أن يلتمس به العذر لأجيال خلت من الأجداد والآباء الذين لم يملكوا نواصي العلم، والقدر اللازم من الإدراك لتوثيق تجاربهم وما توارثوه على حقيقته بحيادية، فإننا وبخاصة بعد مرور أكثر من ستة عقود على قيام ثور 26 سبتمبر 62م، وتحطيم أسوار العزلة الداخلية والخارجية وانتشار العلم وتزايد وسائل اكتساب المعرفة، فقد أسقطنا كل حجة يمكن الاعتذار بها عن عدم الدراسة والتمحيص والتوثيق لماضٍ عاشه الأجداد والآباء، أو تجارب عايشوها، وأخرى قدر للأجيال المتعاقبة منذ ثورة سبتمبر ٦٢م، أن تعيش في ظلالها، مستفيدة من ثمارها أو تعاني من ظلاماتها.
 

إن اكتساب القيمة التاريخية الحقيقية لما دوِّن أو يمكن تدوينه بمختلف الصور والأدوات والوسائل.. لا تكتمل إلا بتحري صدق وموضوعية ما أنتج بعيدًا عن غوايات رغبات الذات أيًا كانت مبرراتها.

 
وهذا القول لا ينصرف بالضرورة إلى قراءة الأخ قادري.. بل إلى كل المدونات والكتابات والدراسات التي تتوسل كتابة التاريخ أو المشاركة بتدوين شهادة على عصر أو حدث، أو إعادة تظهير ممارسات أو تحقيق قراءات.
 
إن العمل السياسي هو عمل اجتماعي بالأساس، ولذلك فإن قياس أثره الموضوعي يكون بمقدار تأثيره في الوسط الاجتماعي الذي نشط فيه، وعمل من أجله، بما في ذلك مقدار ما أحدثه من تغيرات مختلفة، وبالذات في تحديث ثقافته.
وبالتالي فإن واجب تقييم التجارب السياسية وأدواتها منوط بالمكونات السياسية أولًا، وهو واجب يتجاوز حقوق أعضاء المكون لكونه من حقوق المجتمع الذي تحمل تبعات نشاط المكون، وقدم في سبيله التضحيات المختلفة، وهو حق للمجتمع أيضًا يقرر به مدى استحقاق المكون لتوسيع قاعدة الحاضن المجتمعي لمشروعه، وتقوية حامله الشعبي قياسًا على مصالحه الوطنية العليا، ثم إن التقييم واجب لتعزيز بناء الثقة وتقرير البدائل التي يراكم بها المجتمع وعيه، ويعيد توجيه اهتماماته، وذلك بمقدار قدرته على توسيع قاعدة الاستجابة للمتغيرات التي تؤثر بإحدى صورها على الثقافة الاجتماعية السائدة، وتمكن الأداة أو المكون السياسي من توسيع قاعدة الحاضن الاجتماعي لفكره وبرامجه المختلفة.
واستنادًا إلى ما تقدم.. ونظرًا لأهمية ما أحدثته الحركة الانقلابية من ارتدادات مازلنا نعاني من آثارها السلبية حتى اليوم، وبناء على قراءة الأخ قادري، فإني بداية أشكر له إقدامه على تدوين قراءته الهامة للبيانين بمستوى لم يجانب الموضوعية، وإن كانت تحتاج لبعض الإيضاحات والإضافات اللازمة حول القوى والأسباب الأخرى الدافعة للمشاركة بالانقلاب المشؤوم.. شراكة شكّلها تقاطع مصالح الفرقاء، ولم تكن واضحة بالقدر الكافي من خلال عرض الأستاذ قادري، في حين أنها كانت دوافع ورغبات، وإن أمست في ذمة التاريخ، لكنها دفعت قوى حرصت على المشاركة رغم تناقض المشاريع واختلاف الأهداف المضمرة بالذات، وبات إيضاحها هنا مطلوبًا بالضرورة، ليس تشفيًا أو مكايدة، بل من باب الوعي بها كخيبات يتوجب على الأجيال المتعاقبة التعلم من عِبَرها. ولأن هذه القراءة جاءت متحررة من رهاب وسطوة النظام السياسي، وقد ترقى إلى مرتبة شهادة تستحق التوثيق وإعادة النظر في أحداث تلك الفترة، مع الأخذ في الاعتبار ما ورد فيها، فقد دفعني الحرص إلى إبداء الملاحظات السابقة حول ما يتوجب مراعاته عند التعامل مع ما يرتبط بالتاريخ -بحثًا واستقراء وتدوينًا وقراءة- وسعيًا لإعادة ترميم ذاكرة جمعية تنصف التضحيات ومن تنكبوا مخاطرها ودفعوا تكاليفها برضا، ولتكون ذاكرة معافاة وحية يمكن الاستفادة منها والبناء عليها.
ثم لأنها قراءة جيدة، لأن كاتبها عايش الحدث وما ترتب عليه من إعاقات وصراعات وخيبات، وقد تفاعل معه وتأثر به، ثم إنه بحكم إهتماماته البحثية، وبتأثير تنشئته السياسية، فقد تمكن من الاطلاع على ما تيسر له من شهادات حول الحدث وما كتب عنه وفيه، وما ارتبط به في سيَر البعض (وإن لم تكن مكتملة أو منصفة)، فجاءت شهادة على الانقلاب بما كرسه من سياسات تناسلت منه أزمات وكوارث لاتزال تؤثر في حياتنا وعلاقاتنا، وحتى مناخات وطرق تفكيرنا حتى اليوم.
وإذا كانت الأحزاب والمكونات السياسية سواء التقليدية منها أو المستحدثة المستولدة من رحم مدارس فكرية مختلفة بحكم حداثة تجاربها، وراديكالية سياساتها، ونخبوية انتشارها، وبحكم طبيعة المرحلة والثقافة الاجتماعية السائدة التي لم تكن تقبلت في بيئات محلية كثيرة وجود تلك المكونات وما تدعو إليه وتحلم به في تلك الفترة وما تلاها من عقود، ومع غياب تكريس العلاقات الموضوعية الديمقراطية بين الأعضاء داخل المكون أو الأداة احتكامًا لدواعٍ شتى، وفي مقدمتها قواعد عديدة أهمها "المعرفة بقدر الحاجة، ونفذ ثم ناقش، وعدم تسليمها بشرعية وجود الغير المختلف، وغيرها. وبناء على ما تقدم، فلم تلتفت لضرورة تحقيق وقفات تقييمية نقدية سواء لمسارها النضالي أو نتيجة للمشاركة بصناعة حدث ما کانقلاب الخامس من نوفمبر ١٩٦٧م، على سبيل المثال، وكذلك حتى إن تحقق بعضها فقد ظلت حبيسة، وربما تم تداولها في نطاق محدود جدًا، لكنها ظلت وثائق سرية لم تستفد الأدوات والمكونات السياسية من نتائجها لتبني عليها أو لتتخذها عبرًا.. حينًا تحت ضغط المحاذير الأمنية، وآخر بسبب رغبات قيادات تحكمت بتوجيه اهتمامات المكون أو الأداة بعيدًا عن ذلك تحت رغبات أو استجابات شتى أو بحكم المصالح الذاتية.. وباتت تلك الوقفات والأوراق اليوم مجهولة إن لم تكن عوامل الفناء قد لحقت بها. لكنها في كلتا الحالتين لم ولن تسقط حق المجتمع بالمعرفة وبإعادة بناء العلاقة مع المكون سواء كان ذلك من باب حرص المكونات والقادة والمثقفين على إبقاء فكرة العمل السياسي المنظم متقبلة مجتمعيًا، مع الحرص على إنضاجها، ومنعًا لتشويهها أو تحميلها كل موبقات سوء الأداء، أو دحضًا لما قد يراه العامة من أنها أمست سبب البلاء، وبالتالي تزايد دعوات رفضها كما هو حاصل اليوم في ظل استثمار قوى الإسلام السياسي بكل دوافعها وتلاوينها دعوتها لإنكار الحزبية وتكفيرها.
 
وبالعودة لبيان ما وددت المطالبة به، فإن من تلك التفاصيل التي كنت ومازلت معولًا على توثيقها، وأدعو للتحسب لها، الإحاطة بأن الانقلاب جاء متأثرًا بصراعات بين فصائل عمل وطني لم تخلُ من التأثر بظروف ومناخات الصراع التي عجت بها الساحة الوطنية والقومية بالذات و الإنسانية أيضًا، وكان لكل منها ذات القناعة والإيمان، بامتلاكها وحدها الحقيقة واحتكار تمثيلها، وبالتالي فإن الواجب النضالي يدعوها لإنكار ادعاء الآخر المماثل، واتهامه دون دليل، وتخوينه، والتنكيل به قدر الإمكان.
وبقول آخر، فكما شاركت القبيلة بقيادتها المشيخية والعسكرية والمذهبية أيضًا كاستجابة لدواعي المصلحة التي تقاطعت مع مصالح القوى الرجعية والاستعمارية في الإقليم للقضاء على استمرارية تأثير الثورة العربية بقيادتها التاريخية المتمثلة بالزعيم الخالد جمال عبدالناصر، فقد تقاطعت هذه المصلحة مع مصالح ذاتية لحزب البعث وحركة القوميين العرب بالذات، وحتى الإخوان المسلمين أيضًا، ودفعت كلًا منها للمشاركة في الانقلاب بعد أن برر كل حزب حاجته للمشاركة في الانقلاب بشتى التبريرات، ووجوب المشاركة بمستوى أو آخر.
 
فحركة القوميين العرب التي كانت هيأت نفسها في جنوب الوطن لاستلام السلطة بعد جلاء المستعمر البريطاني، كانت وصلت في علاقاتها مع قيادة الثورة العربية في مصر إلى حد التصادم الذي تجلت صوره بالانفصال عن جبهة التحرير (بعد الاندماج فيها سابقًا)، بل خاضت معارك عدة مع رفاق السلاح ممثلين بفصائل التنظيم الشعبي للقوى الثورية، الجناح المسلح لجبهة التحرير، وراحت تستكمل اجتثاث أي وجود مادي واجتماعي له بعد الاستقلال (ولذلك تفاصيل كثيرة لا مجال لها هنا)، كما ساءت علاقتها مع السلطة في شمال الوطن، ومع الدور المصري المرتبط بها، وبناء على قراءتها الداخلية لمستقبل اليمن ورغبتها بالوصول للسلطة وسعيها لتحقيق ذلك في الشمال أيضًا، تمهيدًا لتحقيق حلم الوحدة تحت ظل قيادة الحركة، فرأت أهمية المشاركة في الانقلاب مع السعي الحثيث لتوسيع قاعدتها، وبخاصة العسكرية والأمنية، تمهيدًا للتخلص من شركائها في الانقلاب، وسعيًا لتحقيق الوحدة وفق رؤيتها ومصالحها، وبالتالي فقد سعت بحكم تقاطع مصلحة مع الآخرين (الشركاء).
 
كما جاءت مشاركة حزب البعث من باب تواجد بعض رموزه داخل الجيش، وبعض القيادات العسكرية الكبيرة بوجوهها المشيخية، وما توقعه من إسناد وحماية قبلية أيضًا، ثم بناء على خلافات الحزب على المستويين القومي والوطني مع قيادة الثورة العربية في مصر، ومع قيادة المشير السلال ومن يسانده، وذلك رغبة بالتخلص من توجهات السلطة السياسية بما تمثله من مساندة لقائد الثورة العربية التاريخي من جهة، ومن جهة أخرى لقناعة قيادة الحزب بالسعي للاستيلاء على السلطة بعدئذ عندما تتهيأ الفرص للخلاص من الشركاء الآخرين تحقيقًا للأهداف القومية للحزب، وضمانًا لمصالحهم الخاصة أيضًا، وحلمهم بتوسيع قاعدة البعث، ومنعًا لحركة القوميين العرب من الاستفراد بالساحة.
 
وللأسف، فقد تجلت انتهازية المشاركة بصور عدة كان منها أن كُلّف المرحوم يحيى الشامي -البعثي حينها- قراءة بيان الانقلاب، ثم المشاركة في أحداث أغسطس المشؤومة اصطفافًا مع المؤسستين القبلية والعسكرية ذات الولاء المتعدد، وضدًا للقيادات العسكرية الوطنية بما تمثله داخل مؤسسة الجيش بالذات، وقد كانت محسوبة بالإجمال كقيادات وطنية قادت المواجهة مع أعداء الثورة من الملكيين إبان فترة حصار السبعين يومًا وما تلاها (ولذلك تفاصيل تتمنع المساحة هنا من ذكرها).
 
أما الإخوان المسلمون فقد كان دأبهم ولايزال اختراق المؤسستين القبلية والعسكرية سعيًا لتحقيق الأمن والحمایة، وتنفيذًا لإرادات خارجية متعددة من جهة، ولرغبتها بالتمكين والحصول على النفوذ اللازم تحت دعاوى محاربة الأفكار الهدامة، وحماية الدين والثقافة المجتمعية كمجال حيوي للتنشئة الاجتماعية على قواعد التفكير الغيبي، وتقديس المنتقى من الموروث! ولضمان تنشئة الأجيال بالتوجيه السياسي الخادم لأهداف من يحكم ولأهدافهم المتقاطعة معه.
ولما تقدم جاءت مشاركتهم بالانقلاب نكاية بأهداف الثورة العربية وقائدها التاريخي، بخاصة وقد حكم علاقاتهم تلك فجور الخصومة والتكفير التي تبدت بصورها الفجة في مؤامرة ميدان المنشية، وفي محاولات الانقلاب عام ٦٥ (في مصر)، وبما عكسته نتائج المؤامرتين من المواجهة والصراع داخل مصر وخارجها، ومنها في اليمن، حيث كانت السعودية بالذات تحتويهم وتؤهلهم وتدعمهم بشتى صنوف الدعم.
كما أقدموا على ذلك من باب السعي لتحقيق حلمهم الخائب ببناء دولة الخلافة! بعد التمكين والسعي للتخلص من الخصوم وفقًا للأهداف العليا للتنظيم الدولي للإخوان المسلمين، وباعتبار ساحة اليمن هي الساحة الثانية بعد مصر كبيئتين مفضلتين للسعي لتحقيق أهداف الجماعة.
 
وأختم بأن دفعي الوحيد هو الحرص على جلاء الحقيقة، ووضع النقاط على الحروف، لعل أجيالنا الحالية والقادمة تستفيد من خيبات وكوارث الممارسات السياسية التي شهدتها الساحة اليمنية، ومنها الخيبات والكوارث الناتجة عن انقلاب 5 نوفمبر 1967، وعدمية الصراعات المفتعلة التي تخدم أعداء الوطن والمجتمع، وتجهض كل محاولات الانعتاق والسعي لبناء دولة المواطنة المتساوية المطلوبة والقائمة على حق الشراكة في السلطة والثروة وتكافؤ الفرص.
 

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً