(1)
ارتبطت سنوات السبعينيات العدنية بتلك الموجة الصاخبة والعاتية للممارسة السياسية للاتجاه الراديكالي اليساري الذي أمسك بالسلطة بعد إزاحة كل المناوئين له، حتى من رفاق الجبهة القومية التي تسلّمت حكم الجغرافيا المستقلة في أواخر نوفمبر 67م، وصارت تلك المرحلة محطة معاينة سياسية شديدة الجذب، فانهمرت الكتابات التشريحية المناوئة لها أولًا، وهي كثيرة ومتشعبة، وتاليًا الكتابات ذات الطابع التقييمي والمراجعات من داخل بنية التيار ذاته أو من الشخصيات القريبة منه.
كنا نسمع عن الشعارات الصاخبة المؤيّدة لتأميم المؤسسات والشركات والمعامل والعقارات والمزارع، والمطالبة بتخفيض الرواتب وواجب إحراق الشيادر (عباءات النساء السوداء وبراقعها)، والمساواة بين المواطنين، وتحرير الجزيرة من القوى الرجعية؛ نسمع عن الانتفاضات الفلاحية، والأيام المجيدة التي استقبلت فيها مدينة عدن مئات الريفيين القادمين لتحريرها من قبضة البرجوازيين من الموظفين والمسؤولين والمثقفين المرفّهين الذين يتبردون بالكنديشنات (مكيّفات الهواء).
الكتابات السياسية عن تلك المرحلة كثيرة ومتنوّعة، ولم تحظَ المعاينة الأدبية لتلك المرحلة سوى بالقليل والقليل جدًا، ولم أزل أرى في رواية "الملكة المغدورة"، للروائي حبيب عبدالرب سروري، النموذج الأكثر إقناعًا لمعاينة تلك الحقبة الضاجّة، وإن كانت رواية "فاكهة للغربان"، لأحمد زين، متلصصة أكثر على سنوات الثمانينيات، التي سبقت بدرجة رئيسية لحظة الانفجار الكبير في يناير 1986م.
لكن بمقابل هذا الجنون السياسي بشعاراته السائلة، كان هناك مشروع ثقافي واجتماعي كبير يتمدد في بنية مغلقة متعددة البنى القبلية، يحسب بناؤه لهذا التيار المغامر، الذي كان التعبير الجلي لتقاطعات تلك المرحلة في ذروة استقطابات الحرب الباردة، وجعلت من جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية، وتاليًا جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، جزءًا من اصطفافات المعسكر الاشتراكي وقائدته موسكو، بعد أن تم التخلص من التيار الماوي القريب من بكين من رأس السلطة، ومفاصلها الحيوية، في صيف 1978م.
**
عن أربع سنوات كاملة قضاها في عدن، بين أواخر 69 وأواخر 73، "فضل النقيب"، المتخرّج لتوّه من قسم الصحافة في جامعة القاهرة، نشر -بعد ثلث قرن- مجموعة من النصوص الصحافية عن تلك المرحلة، وصدرت تاليًا في كتاب استعادي أشبه بالمذكرات، سماه "دفاتر الأيام"(*)، حملت وبلغة رشيقة ساخرة وتهكمية أجواء تلك المرحلة المجنونة، وابتدأت من تشبيه الحكّام الجدد بحاملي السُّلَّم بالعرض، الذين قرأوا الماركسية من آخر صفحة في "البوك"، لهذا سيذهب بعد أشهر طويلة من البحث المضني عن وظيفة، إلى شخص قرأ الماركسية من الصفحة الأولى، وهو عبدالله عبدالرزاق باذيب، الذي كان يشغل وقتها وزير التربية والتعليم، ولن يأخذ عليه الوزير مثلبة تصريح صحافي له أن "أعظم المفكّرين تأثيرًا فيه كان العقاد".
أول وظيفة للنقيب كانت في كلية عدن، التي أنشأها الإنجليز مطلع الخمسينيات في منطقة حدودية بين مستعمرة عدن وسلطنة العبادل في "نمبر 6" بدار سعد، وهناك سيتعرف على شخصية نادرة أنجبتها المدينة في تلك الفترة، وهو الأستاذ الراحل عبدالوهاب عبدالباري -عميد الكلية- أحد ألمع خريجي الجامعة الأمريكية في بيروت في الستينيات، والذي كان يربّي في حوش الكلية أغنامًا يراها أكثر حكمة من الطلاب ومن السياسيين الذين يحكمون البلاد.
"كانت تسرح وتمرح في الكلية، ثم تمادت فأصبحت تدخل إلى الصفوف تتبرد، وهي تحاول قضم أحذية الطلاب البالية وأطراف ثيابهم الرثة، وقد أثبتت الأغنام موهبتها الطبيعية في امتصاص القلق، وإشاعة البهجة والتعايش مع البشر" (ص8).
يورد عن الأستاذ عبدالوهاب الكثير من النوادر والمقالب، التي كان يعملها لكبار الشخصيات، ومنهم أقرب أصدقائه، فيشنّع عليهم، ويطلق عليهم ألقابًا تتحوّل إلى فكاهات في مقايل المدينة، طلابه لا يسلمون من لسانه الطويل الشامت، ومع ذلك لا يستطيع أي نافذ في السلطة أذيّته لعلمه ونظافته، وبقي الكثير من طلابه يتداولون قفشاته ومقالبه، وفي الوقت ذاته يروون المقالب، التي يصنعونها به، ومنها أن سيارته القديمة كانت كل وطنه، ففي خانتها يحمل "مداعته وتتنه وفحمه" وأغراضه الخاصة، وكان الصديق الراحل عمر محمد عمر يروي لنا الكثير من القصص عنه وعن سيارته، وأنهم حينما كانوا يبصرونها واقفة في أحدِ شوارع كريتر الخلفية يقومون بدهفها، إلى شوارع بعيدة عن المكان الذي وضعها فيه، وحينما يخرج بعد المقيل لا يجدها فتثور ثائرته، وفي اليوم التالي يمر على كل الفصول لإخراج الطلاب الذين يقطنون في الحي الذي شهد "دهف" السيارة، ثم يسمعهم كلامًا بذيئًا، قبل أن تصير شتائمه متداولة في كل مقايل المدينة.
لا يزعلون من أستاذهم العبقري الذي حوّل اللغة والأدب مواد محببة، بسبب علمه الغزير ومقدرته على توصيل الأفكار بأكثر الوسائل سلاسة وفكاهة.
بعد فترة قصيرة من عمل النقيب في الكلية، ينتقل إلى العمل في الإذاعة بتوجيه من الوزير عبدالله الخامري، وهناك سيترافق مع عمر الجاوي، لتتحوّل ذكرياته معه إلى أنصع صورة عن الشخصية الوطنية الفذة التي يصفها بقوله:
"عمر الجاوي الذي درس بطنطا وموسكو، وكان زعيمًا طلابيًا بارزًا، وأحد أبرز قادة الدفاع عن صنعاء في حصار السبعين يومًا؛ كان رجلًا قصير القامة برأس أصلع، وعينين مغناطيسيتين جاحظتين، وصوت يجلجل حين يتكلم بأداء موسيقي أخّاذ مطرز بالشعر والحِكَم والأمثال الشعبية. كان يساريًا باللسان، شعبيًا تراثيًا بالوجدان، إنسانيًا في الأعمال. منه عرفنا مجد التحدي، وتعلمنا فنون الاقتحام.. تقول له هذا جبل يا عمر، فيقول لك عيب، حد نظرك، هذه غيمة هشَّة دق رأسك برأسها، وحين تعود إليه بدمك يقول لك هكذا الرجال.. ذي ما يكسر ظهرك يقويك" (ص22).
يقول: "قام الجاوي، دون الرجوع إلى الوزير والوزارة، بتشكيل مجلس للإذاعة والتلفزيون، وعينني نائبًا له ومديرًا للإذاعة -دون معرفة سابقة ولا استحقاقات مالية- وكان أول قرار اتخذه حرمان نفسه من راتب المدير العام، والتنازل عن الصلاحيات المالية للمسؤول المالي (عيب نوسخ أنفسنا بالفلوس)".
لم يكن الجاوي يمتلك سيارة، ويرفض استخدام سيارات الإذاعة والتلفزيون، وكان يخرج، بعد الدوام، إلى الشارع، وينتظر من يُقله معه في طريقه، وذات مرّة وهما واقفان معًا (الجاوي والنقيب) في انتظار من يُقلهما، ظهرت سيارة العميد عبدالوهاب عبدالباري، الذي انفجر أول ما شاهد الجاوي: أنا يا عمر يشنّعوا عليّ ويسموني عبد القات عبد البوري، فأخذ عمر في تهدئته، بينما العميد يدوس على البريك والكلاتش في ضربات سريعة متتابعة.. طيّب على كيفك مافيش قطع غيار في البلاد.. قال العميد بفرجك انتقامي، ثم أزاح سجادة من على البريك والكلاتش، حيث ألصق صورتين لـ"لينين" و"ماركس"، أخذ يدوس عليهما.. علق الجاوي: لا حول الله بايخلوا نص شعبنا مجانين".
كان الأستاذ صالح الدحان أحد وجوه المرحلة الثقافية والصحافية، وذلك بترؤسه صحيفة "الشرارة"، منذ تأسيسها كأول جريدة مسائية في عام 1970، ومستشارًا لوزير الإعلام والثقافة في عدن، وعاملًا في سكرتارية مجلس الوزراء ثم مندوبًا في صنعاء للممثل الشخصي لرئيس مجلس الرئاسة في الجنوب عبدالله الخامري، في فترة لجان الوحدة اليمنية، وكان من كثر سخريّته من الأوضاع الاقتصادية والسياسية الصعبة في ذلك الوقت، يسمي الحكومة "حكومة الربع ساعة"، ليش يا عم صالح؟ افهمها يا أهبل: إنهم إذا نجحوا واجتازوا الربع ساعة بسلام، صفقوا من الفرح، وأطلقوا خطة ربع الساعة الثانية!
يفرد النقيب للشاعر الكبير محمد سعيد جرادة مساحات متعددة، تتماهى مع سخرية الرجل وبهائه، الذي يقول عنه النقيب: "الجرادة الصعلوك الجوال أيضًا الذي يفيض في مجالس (القات) فكاهة ودعابة ومرحًا، ويتقبل بصدر رحب ومحبة كل ما يرميه به الآخرون من سهام طائشة أو نافذة" (ص29).
وتبدأ مساحات الكتابة من ضحكه المتصل على النقيب بعد تقريعه الشديد من المذيعة المشهورة آنذاك "فوزية غانم"، حين نعتها بالعمة قبل تسجيلها مقابلة مع الجرادة في استوديو الإذاعة، وكان كلّما رآه الجرادة يسأله: أيش أخبار العمة فوزية؟ بعد أن قال له بعد الواقعة: يا أهبل تعلم كيف تخاطب النساء، وتنهي هذه المساحة برجوع الجرادة إلى عدن بدون النقيب ومحمود الحاج بعد التجائهما إلى صنعاء، بعد أن هبطا فيها كوفد ثقافي خرج من عدن بدون ضمانة، ليقول قولته الساخرة والخالدة "التقدّميون تقدموا والرجعيون رجعوا"، غير أن أطرف الحكايات التي يوردها عن الجرادة تلك المتصلة بصانونة الموز، وملخصها أن "زوجة الجرادة أيقظته بعد صلاة فجر أحد أيام تلك المرحلة للذهاب إلى طابور الجمعية لشراء الخضار المختلفة، قبل ازدحام الطابور، لطبخها على الغداء، وحينما وصل إلى شباك الموظف المعني في التاسعة نقده الفلوس، وفي الحادية عشرة وصل إلى شباك موظف التوزيع، الذي حينما اطلع على قائمة الطلبات المدفوعة قيمتها سلفًا، قال له: مافيش طماط، خذ بدلًا عنها موز، مافيش بامية خذ موز أيضًا، مافيش بصل خذ موز كمان، وحينما عاد إلى المنزل في الواحدة رمى بالموز أمام زوجته، وقال اطبخي صانونة موز، ثم ذهب إلى مقر الإذاعة والتلفزيون، ودخل إلى مكتب عمر الجاوي ليعزمه هو والنقيب على صانونة الموز، التي تحوّلت إلى فكاهة في مقايل عدن.
"يا إخوان، أنتم جميعًا مدعوون عندي على صانونة موز(**)! ولم يكن أحد في ذلك الصقع من القطر اليماني قد سمع بصانونة الموز، رغم أن المطبخ العدني من أفضل المطابخ العربية.
هرش الجاوي صلعته، وقال: بطل مزاح يا جرادة.. الآن معانا شغل.. فأجاب الجرادة: الله يلعنك أنت وشغلك، عامل زعيم ولا أنت داري أيش يجري في البلاد. رد الجاوي: أنا ابن عبدالله، أيش الموضوع.
جلس الجرادة على الكرسي ومازال يلهث وروى القصة" (ص30).
_______
(*) فضل النقيب، دفاتر الأيام، إصدار وزارة الثقافة -صنعاء، 2006.
(**) الصانونة كمسمى هي الإدام المطبوخ، ومن الاستحالة أن تُطبخ الفاكهة في أي من نواحي اليمن.