صنعاء 19C امطار خفيفة

وحدة الفكر الإنساني بين الشرق والغرب

وحدة الفكر الإنساني بين الشرق والغرب

في كتابه «هكذا سكت نيتشه.. هكذا تكلم زوربا»، أتى الكاتب الكبير أنس زاهد بمقارنات كثيرة بين فيلسوفين عظيمين: نيتشه، وزوربا. أمَّا الأول فقد شَقِيَ بفكره، وكانت عبقريته وبالاً عليه وسببًا لتعاسته. فنيتشه فيلسوف القوة الذي أراد أن يميت الإله، ويستبدله بالإنسان الخارق (السوبرمان)، لم يبؤ من عمله هذا إلا بالعجز المتناهي الذي أفضى به إلى الانتحار.

 
أمَّا الآخر فهو زوربا اليوناني؛البطل الحقيقي لرواية نيكوس كازانتزاكيس. ذلك الرجل الذي عاش الحياة محبًا لها، مندهشًا لكل ما فيها من طبيعة ومفاتن ونساء وخمرة ونبيذ.
 
لقد خبر زوربا الحياة وعشقها وتقبلها بحلوها ومرها، وعرف أنَّ الحياة ليست صفوًا كلها؛ فهي عالم يعتريه النقص، لا شيءَ فيها مكتمل. ومع ذلك، فقد أقبل عليها بشغف، فاتحًا ذراعيهِ لعناقها، شاربًا من رحيقها على قذىً فيها، غير متبرمٍ، ولا متضجر من طبيعتها التي خُلِقَت عليها.
 
وهكذا عاش زوربا متصالحًا مع نفسه، متكيفًا مع الحياة في شتى أطوارها وتقلباتها، حتى إنك لترى هذا الرجل الأبيقوري ليصل بمذهبه الذي اختطه لنفسه إلى النتيجة التي يصل إليها الصوفي أو البوذي عن طريق التقشف والزهد وقهر النفس ورياضتها.
 
وقد قال النفري في مواقفه: "أوقفني على الجنة، فرأيت «جِيمَ الجَنَّة» «جِيمَ جَهنم»، وما به يُعذِّب، عينَ ما به يُنعِّم".
 
لقد رصد الأستاذ أنس زاهد في كتابه هذا مقارنات عِدَّة بين هذين الفيلسوفين، رجحت فيها كفة زوربا على نيشته، وقد قمت بتعزيزها بشواهد منثورة ومنظومة من الفكر العربي والإسلامي تؤيد هذه الرؤية أو تلك، وكلها تخرج من مشكاة واحدة هي مشكاة العقل والحكمة والتنوير الإلهي.
 
في حوار بين زوربا وصديقه، يسأله صديقه؛ وذلك بعد أن شَبَّهَ زوربا عشيقته الفرنسية: مدام هورتنس (مدام بوبولينا)، وسائر مُتَع وملذاتِ الحياة- بالعِظَام:
 
- "ألا تود أنْ تسأل الآن مَنْ الذي يرمي لكَ العَظْمَة؟
 
- وما الذي يهمني! إنَّها ليست إلا نملةً كبيرة بين كومةٍ من القش. تناولْ العظمة ولا تهتم لليد التي ترمي بها. هل هي ذات مذاق جيد؟ هل عليها بقايا من اللحم؟ هذه هي المشكلة ليس إلا".
 
يذكرنا بالبيت الذي ذكره الحريري في «المقامة التفليسية»:
فَكُلْ ما حَلا حِينَ تُؤتَى بِهِ
ولا تَسْألِ الشّهْدَ عَنْ نَحْلِهِ
 
ويقول بوذا: "يقلق الأحمق مفكِّرًا: عندي أولاد. عندي ثروة. حقًا عندما لا يملك ذاته نفسها؛ فكيف بالأولاد؟! كيف بالثروة؟!".
 
ويقول زوربا: " اقبض على ما بين يديك بقوة، لكن لا تطمح إلى امتلاكه. فإذا كنت لا تملك نفسك؛ فكيف تحرص على امتلاك الأشياء والحفاظ عليها".
 
ويقول الشاعر العربي:
 
نفسي التي تملكُ الأشياءَ ذاهبةٌ
فكيفَ أبكي على شيءٍ إذا ذَهَبَا
 
ولطالما تذمر نيتشه، وتسخط من النفاق الاجتماعي، وطبيعة المداراة التي يتقي بها الناس شرور بعضهم بعضًا، فيقول:
 
"ما يطمع هؤلاء الناس إلا بأن يتقي بعضهم شر البعض الآخر؛ فهم لذلك يلجؤون إلى التعامل بالحسنى. أمَّا أنا فلا أرى إلا الخور والجبن في هذه الطريقة، وإن كانوا يعرفونها بالفضيلة فيما بينهم".
 
وكذلك اشتكى المتنبي قبله من اضطراره لمداجاة من يتقي شرورهم وغوائلهم، فنراه يقول:
 
ومِنْ نَكدِ الدُّنيا على الحُرِّ أنْ يَرَى
عدوًا له ما من صَداقَتهِ بُدَّ
 
ويقول:
 

فيا نكدَ الدُّنيا متى أنتَ مُقْصِرٌ

عن الحرِّ حتى لا يكونَ لهُ ضِدُّ؟!

يروح ويغدو كَارهًا لِوصَالهِ

وتضطرهُ الأيامُ والزمنُ النَّكدُ

 

وما شكا منه المتنبي ونيتشه يمثله قول الحريري في إحدى مقاماته:
وعاشرتُ كُلَّ جليسٍ بما
يُلائمهُ لأروقَ الجليسا
فعندَ الرُّواةِ أديرُ الكلامَ
وبين السُّقَاةِ أدِيرُ الكؤوسا
 
ويتحدث نيتشة عن تجار الفضيلة، فيقول:
 
"إنكم تتقاضون ثمن فضيلتكم، وتطالبون بالجزاء أيها الفضلاء؛ طامحين إلى امتلاك أماكن في السماء، بدلاً من أماكن في الأرض، وإلى الظفر بالأبدية بدلاً من الدهر الزائل".
 
ويقول الإمام علي -رضي الله عنه-: " إن قومًا عبدوا الله رغبةً، فتلك عبادة التجار، وإنَّ قومَا عبدوا الله رهبة، فتلك عبادة العبيد، وإنَّ قومَا عبدوا الله شكرًا، فتلك عبادة الأحرار".
 
يقول العلامة ابن أبي الحديد شارح النهج: "هذا مقام جليل تتقاصر عنه قوى أكثر البشر، وقد شرحناه فيما تقدم، وقلنا: إنَّ العبادة لرجاء الثواب تجارة ومعاوضة، وإنَّ العبادة لخوف العقاب لمنزلة من يستجدي لسلطان قاهر يخاف سطوته. وهذا معنى قوله: «عبادة العبيد»؛ أي خوف السوط والعصا، وتلك ليس عبادة نافعة، وهي كمن يعتذر إلى إنسان خوف أذاه ونقمته، لا لأنَّ ما يعتذر منه قبيح لا ينبغي له فعله.
 
فأمَّا العبادة لله تعالى شكرًا لأنعمه، فهي عبادة نافعة؛ لأنَّ العبادة شكر مخصوص، فإذا أوقعها على هذا الوجه، فقد أوقعها الموقع الذي وضعت عليه. فأمَّا أصحابنا المتكلمون فيقولون: ينبغي أن يفعل الإنسان الواجب لوجه وجوبه، ويترك القبيح لوجه قبحه، وربما قالوا: يفعل الواجب؛ لأنه واجب، ويترك القبيح؛ لأنه قبيح".
 
وقالت رابعة العدوية -رضي الله عنها:
 
أحِبُّكَ حُبيَّنِ: حُبَّ الهَوَى  
وحُبًّا؛ لأنَّكَ أهلٌ لِذَاكَا
فأمَّا الذي هُوَ حُبُّ الهَوَى
فَشُغلِي بِذكرِكَ عمَّنْ سِوَاكا
وأمَّا الذي أنتَ أهلٌ لهُ 
فَكشفُكَ لي الحُجبَ حتى أراكا
فَلا الحَمْدُ مِنْ ذا ولا ذاكَ لي
ولكن لكَ الحَمْدُ في ذا وذاكا
 
وفي الختام..
 
إنَّ هذه الوحدة في الفكر الإنساني؛ بين المشرقيين والمغربيين، لتكاد تتطابق بلفظها ومعناها؛ الأمر الذي يتبدى فيه المشترك الإنساني لغةً عالمية يتحدث بها كُلُّ الشعوب في كل بقعة من بقاع الأرض.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً