صنعاء 19C امطار خفيفة

الرقص الشعبي اليمني.. صلاة لذاكرة تقاوم الطمر والنسيان

2025-04-14
الرقص الشعبي اليمني.. صلاة لذاكرة تقاوم الطمر والنسيان
رقصة شعبية تهامية( منصات التواصل)

الإهداء: إلى عمار العزكي

 

1- مفتتح:

 
يعد الفلكلور الشعبي اليمني، والذي يمثل الرقص المتنوع ركيزته الأساسية، أحد أهم عناصر التراث الثقافي اللامادي الذي يشكل وينمي لدينا الإحساس بهويتنا اليمنية، والشعور باستمراريتها، أي أنه روح الماضي الحضاري التليد العائش والنابض والمتجدد في حاضرنا وهويتنا. وفن الرقص اليمني الشعبي بمختلف تنوعاته، هو أبرز تجليات الإبداع للإنسان اليمني ضمن ظاهرة معرفية وثقافية تاريخية حضارية أوسع.
 
كما أنه من ناحية أخرى يعكس التطور الفكري التاريخي والاجتماعي والجمالي للإنسان اليمني على مستوى الفرد وعلى مستوى الجماعة الوطنية، إذ إن الارتباط والاعتناء به هو شكل من أشكال تعبير هذه الجماعة عن أصالتها ووجودها وتمايزها على مستوى المجتمعات الإنسانية! وبالتالي فإن العمل على إحيائه وتطويره والمحافظة عليه أمر مستوجب وضروري علينا في كل المستويات الوطنية الرسمية وغير الرسمية، لأن ذلك يحقق لنا التواصل المعرفي والوجداني فيما بيننا أفرادًا وجماعة، ويطور إحساسنا بالمسؤولية المشتركة إزاء تراث بلدنا، وإغناء تنوعنا الثقافي، بالإضافة إلى أن ذلك الدور يشكل عاملًا هامًا في الحفاظ على تنوعنا الثقافي وتماسك هويتنا الوطنية في مواجهة إفرازات العصر الغوغائية والاعتباطية غير المنتظمة وغير الممنهجة في قوالبنا الثقافية الخاصة.. وكذلك يعزز أدوات مكناتنا المعرفية والثقافية والذهنية أمام المأزق القائم للهوية، التي تتعرض اليوم أكثر من أي وقت مضى، للتجريف والهدم الممنهج بأدوات تعبوية دينية نكوصية وارتدادية لصالح مشاريع استبدادية ضيقة ودنيئة!
إن التراث الشعبي بشكل عام، والفلكلوري الرقصي بشكل خاص، بصفته أحد المشتركات الوطنية والإنسانية، يساعدنا بكيفيات مختلفة على الحوار فيما بيننا، ومع الآخر أيضًا، ويسهم في التماسك الاجتماعي أمام هجمات التجريف والتفكيك القائمة، ويحفز الشعور بروح الانتماء الوطني والمسؤولية، فأشكال التعبير التي يحققها هذا التراث الفلكلوري الرقصي غير المادي، تغطي الإحساس بالهوية والاستمرارية، وتشكل حلقة وصل بين الماضي والحاضر والمستقبل!
(رقصة شعبية قديمة (عبد الرحمن الغابري
وانطلاقًا من هذه الأسس والمرتكزات العميقة، انضمت وصادقت بلادنا اليمن عام 1982م على اتفاقية حماية التراث العالمي الإنساني، الصادرة عن اليونسكو في العام 1972م.
 
وقد شهدت مرحلة ما بعد ثورتي سبتمبر وأكتوبر، وفي سياق معطيات وفعاليات وخطط بناء المشروع الوطني للدولة اليمنية الحديثة، طفرة وفعاليات وإسهامات إيجابية رسمية في إطار وزارتي الثقافة والسياحة، عملت ولو قليلًا على إحياء وبعث فلكلور الرقص الشعبي بمختلف تنوعاته، وأنشأت فرقًا شعبية لهذا الفن على مستوى الشطرين، أسهمت في نقل هذا التراث على المستوى الإقليمي والعالمي، عبر المشاركة في العديد من المعارض الثقافية والفعاليات العالمية. وفي العام 2010م أدرجت اليونسكو رقصة البرع اليمني الشعبي ضمن قائمة التراث الثقافي اللامادي للإنسانية!
 

2- الرقص الشعبي اليمني: صلاة الخالدين في معبد الشمس:

 
يرجع الجذر الأول لهذا الفن وما يتعلق به من بقية تراثيات فلكلورية، إلى الحقبة التاريخية الأولى للإنسان اليمني، التي بدأت قبل الميلاد بثمانية قرون، وربما أكثر، إذ كانت تؤدى الرقصات وغيرها من التمثلات الحركية والإيمائية والتعابير الفلكلورية اللامادية، ضمن طقوس دينية مارسها اليمني الأول آنذاك منذ وعى الفعل الحضاري، وإن بكيفيات تختلف في جزء بسيط منها عما هو قائم اليوم، ولكنها ظلت محتفظة بالجوهر باعتبارها أحد أشكال الطقوس الأدائية والترميزية في الفعاليات الدينية اليمنية القديمة، كمواسم الحج القديم وفعاليات الزواج كمعطى علائقي ديني أولًا، اجتماعي ثانيًا، وكذلك في تعبدات وصلوات الكهنة وطقوس المعابد، وغيرها من المناسبات العقائدية والدينية والاجتماعية. وقد استمر أداء وتمثل تلك الممارسات في التطور والتلاقح الحضاري والتاريخي والديمومة حتى اليوم، ممتزجة لاحقًا مع المعطيات الاجتماعية وعناصر التفاعل التاريخية، لتأخذ أشكالًا وأنساقًا أدائية ودلالية جديدة في جزء منها متسقة ومتطورة مع جوهرها الأول، ونابعة من الوجدان الفني الإبداعي للجماعة وحاملة لأنماط سلوكية تعبر عن العمق الجمالي والروحي للإنسان اليمني.. ولم يتم فصل تلك الفنون التعبيرية اللامادية عن الطقوس الدينية اليمنية، إلا عند اعتناق الجماعة اليمنية للإسلام. ومع أنها مثل غيرها من عناصر الإبداع والتمثلات المعرفية والفنية والطقوسية الحضارية، تعرضت من قبل الدين الوافد للطمر والتجريف الممنهج، إلا أنها ظلت بحكم عمقها الوجداني والمعتقدي محافظة على بقائها، ولكن عبر انتقالها إلى حيز ومساحة ثقافية فنية جديدة، ظلت هذه المساحة متصارعة مع الدين الجديد حتى اليوم، لكنه لم يتمكن من طمرها.
فلكلور عدني( منصات التواصل)
والمطلع على تاريخ الميثولوجيات اليمنية وعقائد اليمن القديم وطقوسها الأدائية، يدرك المسألة بداهة، إذ إن هناك بعض الرقصات والمعطيات المصاحبة لها، والتي تعد من لوازمها كتقنية الأزياء ورمزيتها، وحضور الروائح المصاحبة كالبخور، ووضع النباتات الفواحة والوردية على غطاء الرأس و... الخ، باقية حتى اليوم، ومازالت تؤدى في حيز ذهني من الفضاء الطقسي الديني الأول، الفضاء الاندغامي التفاعلي الروحي العقائدي.. فعلى سبيل المثال: رقصة الهوشلية، وهي المستوى الأدائي الرابع والأخير من رقصة البرع، مازالت حتى اليوم في هذا المستوى تتبطن وتؤكد وتعبر في إيماءات الراقص واندغاماته الروحية والهيامية، ما يرمز ويشي بوضوح أن حركاته تنتظم في وعي مهاجسة طقسية دينية عقدية روحية أكثر من كونها حركة تعبير جسدي لفلكلور فني صرف مهما كانت تؤدى ضمن إيقاع متناسق.. وكثير منا قد شهد في طفولته بعض راقصي الهوشلية في ذروة الأداء واندغامات مهاجساته مع حركاته الجسدية المنفلتة بتقنية مدروسة، يسقط أرضًا فاقدًا الوعي... وهذا يؤكد السياق الذي أقصده حول الجذر الأول للرقص الشعبي اليمني. فالطقس الديني المعتقدي عبر التاريخ هو وحده المعطى الروحي الاستلابي الذي يغيب وعي الإنسان (باستثناء الحالة الفيسيولوجية المرضية). أما المعطى الفني الجمالي والوجداني سواء حركي أو ذهني، فهو محفز للوعي وفاتح لآفاقه عند الفنان والراقص والمبدع!
 
وبالتالي فإن الفلكلوريات الشعبية في اليمن وما أكثرها، والرقص إحداها، هي في الأصل طقس ديني تعرض عبر المراحل التاريخية الإسلامية للاضطهاد والقمع اللاحق من قبل أدوات وسلطة هذا الدين الصحراوي الوافد! والذي فشل وسيفشل في طمر هذه المعطيات الحضارية لتجليات إبداع الإنسان اليمني!
 

3- الرقص الشعبي اليمني ومحاولة إنتاجه حالة ذكورية

 
بعد فشل الدين الصحراوي وعدم قدرة أدواته الاضطهادية المناهضة للموروث الشعبي الحضاري القديم، في محاولة إعدامه، عملت هذه الأدوات المعرفية من أجل الصيرورة الاستحكامية للدين الجديد، على إنتاج وتصوير الموروث القديم كنقيض للتعاليم والطقوس الجديدة، والعمل عبر الوسائل الخطابية والفقهية والمعارف السلوكية، على تحريم بعض طقوس وفنون ومعارف حضارية موروثة معينة، وازدراء وتسفيه البعض منها، وإعادة تأطير وتنميط ما تبقى منها في قوالب مؤسلمة، كل ذلك في سياق تجريف وتهيئة الذهنية والوعي الجمعي لاستقبال التعاليم الجديدة للعقيدة الوافدة، والخضوع لها.
رقصة البرع(أ.ف.ب)
وبخصوص الرقص الشعبي اليمني كطقس ديني قديم، تم تذكير هذا الفن الطقسي وفصله عن الوعي الديني وإعادة نظمه واستيعابه في قالب اجتماعي أحادي القطب البشري، إذ عملت دوائر فقه التعاليم الإسلامية الصحراوية المفخخة بالمهيمنات الذكورية، على تحريم هذا الرقص على المرأة كطقس فرائحي عام، وإتاحته وحكره في علانيته للرجل. كما عززت ذهنيًا مزج الرقص الذكوري بالمعطيات البطولية والحربية بعيدًا عن مضامينه المعرفية والرمزية الأولى.
 
وبالنسبة للشق النسوي في الرقص، وهو الأخطر من كل ذلك، فقد تم العمل على استيعاب معطيات التحريم في منظومة القيم والقواعد الناظمة لسلوك الجماعة، عبر عملية تلاقح علائقية دنيئة وحقيرة الغاية بين التحريم كحكم وفكرة دينية، وبين قيم العيب والشرف والأخلاق كتعاليم وقواعد اجتماعية ناظمة لسلوك الجماعة ومتحكمة بعلائق وعيها الاعتباري، وذلك من أجل تعزيز وإسناد قوة التحريم الديني في القضاء على هذا الفن الطقسي، والتي لم تستطع تلك التعاليم الدينية الجديدة وحدها تحقيق ذلك. إلا أنه، ورغم كل تلك الإرهاصات والعوامل القمعية، ظل الرقص الشعبي بقطبيه حاضرًا في حياة اليمنيين، ولكن في دوائر مجتمعية فنية وجمالية ضيقة خارج الحياة الرسمية العامة، كأن بقي للمرآه مساحة رقص شعبي مغلقة بعيدة عن الحضور الذكوري في طقوسها، وكذلك بقي الرقص الشعبي بقطبيه حالة موجودة في بعض الجغرافيا المجتمعية من الريف اليمني الذي ظل باقيًا على سجيته، واستطاع أن ييمنن بعض تعاليم الصحراء الوافدة.
رقصة فلكلورية على خشبة المسرح(فيسبوك)
واستمر الحال كذلك حتى ظهور ملامح التحديث المعاصرة، بخاصة وابتداءً في البيئة العدنية إبان السنوات الأخيرة من عصر الاستعمار البريطاني للجنوب اليمني، حيث بدأت ملامح إعادة إحياء التراث الفلكلوري بشكل رسمي، ولو متواضع، ثم ليفتح الباب بعد ذلك رسميًا غداة ثورتي سبتمبر وأكتوبر، حيث تم بعدها الاهتمام إلى حد ما بالموروث الشعبي الفلكلوري، وإنشاء فرق وطنية رسمية في شطري الوطن، لتمثل الموضوع انطلاقًا من إحياء الفلكلور كموروث حضاري يعزز الهوية اليمنية، وكحقل فني ثقافي تفاعلي جاذب للسياحة كمورد اقتصادي... لكنه ومع تعثر مشروع الدولة اليمنية الحديثة، بخاصة بعد حرب صيف 94م، إضافة إلى عدم تناول الموضوع في إطار الأعمال البحثية التاريخية الأكاديمية والمؤسسات الجامعية، استطاعت المراكز التاريخية القمعية المناهضة لفكرة الموروث والهوية، إعادة المسالة إلى المربع الاضطهادي التجريفي الأول، بخاصة في ظل انهيار وتعثر مشروع الدولة الوطنية الحديثة.
ففي مطلع الثمانينيات، وبعد الوحدة اليمنية، تم إحياء أدوات التحالف الديني القبلي الهادم للإنسان والدولة، وتمكينها من مؤسسات ومنابر صناعة الوعي والتعليم لإعادة صياغة وتجريف التراكم البسيط لعقدين، عمل وإحلال صيغة دينية وهابية سلفية بمكنات سياسية قبلية أكثر نكوصية وقتامة مما كان عليه، وذلك كمهيمنة جديدة على صناعة الوعي والمعارف الثقافية وأنماط العلاقة السلوكية بين الرجل والمرآه وبين الإبداع والحريات والفنون والدين.
 
وما يحصل اليوم من مناهضة وتجريف للموروث الشعبي بصور وطرق اعتباطية، ما هو إلا امتداد لتلك النكسات التي عانها منها الوعي الجمعي اليمني على مستوى الهوية والوجود عبر التاريخ. والأخطر أن الأدوات الهادمة للهوية والمجرفة للموروث اليوم، تعمل بطرق منهجية أكثر لؤمًا ودناءة من ذي قبل، بل اعتباطية متزامنة مع غوغائية الأدوات الحداثية لصناعة المعرفة، وهو ما فتح المجال للحقد الإسلاموي في أقصى تجلياته البغيضة للسعي إلى إعادة تجنيس الهوية عبر مرحلة أولى لإعادة صياغة الجزء الإسلاموي التاريخي منها بأنساق معرفية مغايرة للتراكم التاريخي، ومن ثم محاولة إنتاجها بقوالب جديدة عبثية وضيقة وهادمة.
شرح لحجي
فإذا كانت الصيغ الاضطهادية القديمة للدين الجديد سعت تاريخيًا إلى تفكيك الموروث الشعبي وأسلمة المجتمع، فإن دوائر الاضطهاد الجديدة قد ذهبت باعتباطية وعدمية هادمة إلى ما هو أبعد من ذلك، في محاولات الإعدام الكلي لتراكم هوية اليمن ما قبل الإسلام، وإعادة إنتاج إسلاميتها أيضًا، وكذلك عسكرة وتحريب القبائل والمجتمع، كل ذلك ضدًا للصيرورة التاريخية حتى في أنساقها التفاعلية الإسلاموية.
وما سعي دوائر الاضطهاد الدينية المتحكمة اليوم في مضايقة الفنانين وتحريم المناسبة الاحتفالية الغنائية والفلكلورية بصورتها الفنية والجمالية، إلا في سياق ذلك الهدف الخبيث والدنيء..! وقد وصل الحال مؤخرًا في السياق الاجتماعي أن تعلن قبيلة الفنان عمار العزكي، قبل أسبوعين، التبرؤ منه، لأنه أصدر أغنية من الموروث الشعبي تتضمن مساحة ضيقة جدًا لرقص نسوي من الفلكلور الشعبي.. يا له من خزي..!
 
إن المجتمع هو من يجب أن يتبرأ من الوعي الذي يهيمن قسرًا على واقع وذهنية هذه القبيلة..! عن أية هوية إيمانية يتحدثون! يا للخجل! إن الجدير بنا والواجب علينا هو الانتصار لموروثنا التاريخي، واعتبار الرقص الشعبي بقطبيه صلاة من نوع آخر، كونه ابتداءً من حيث النشأة والصيرورة التاريخية أحد تجليات الطقوس الدينية لأجدادنا الأوائل.
 
وأمام هذه الظواهر المستفزة التي بدأت تتكاثف بشكل غير معهود، فإنه يتعين أن يكون لليمني رد مناهض سواء أفراد أو جماعة أو نخب مثقفة.
 

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً