منذ فترة طويلة وصفت مشروع انفصال الجنوب بأنه "مشروع فوضى"، لأني كنت أدرك تمامًا أنه لن يؤدي إلى عودة الدولتين كما يروج له الانفصاليون، بل سيفضي إلى تدمير ما تبقى من الدولة اليمنية القائمة. فهذا المشروع يستدعي المزيد من التدخلات الخارجية الضارة، من قبل أطراف إقليمية تملك أطماعًا في اليمن، أو تخشى من الدولة اليمنية الموحدة.
كذلك، فإن مشروع الانفصال هو محفز لمشاريع انفصالية جديدة، في الجنوب والشمال، بصيغ متعددة. وها نحن اليوم نرى إعلان تجمع قبلي في حضرموت يطالب بإنشاء حكم ذاتي للمحافظة، بما يعني عمليًا ولادة كيان انفصالي جديد من رحم كيان انفصال الجنوب. وهذا التطور أمر طبيعي، لأن المشاريع الانعزالية تتوالد تلقائيًا حين تتوفر الظروف المناسبة، وعلى رأسها وجود دعم وتمويل خارجي.
وانطلاقًا من هذا المنطق، ليس مستبعدًا أن يظهر في المستقبل القريب مشروع انفصالي جديد داخل حضرموت نفسها، ينطلق من ساحلها، وقد يجد دعمًا في بعض مناطق الهضبة، كمدينة شبام، التي كانت تاريخيًا تتبع السلطنة القعيطية في المكلا، وليس السلطنة الكثيرية التي كان مركزها مدينة سيئون المجاورة.
ولا يقتصر الأمر على حضرموت، فمحافظة المهرة يجري إعدادها لتكون كيانًا مستقلًا عن بقية اليمن، وقد تعلن هي الأخرى الحكم الذاتي، كما هو متوقع أيضًا في سقطرى. أما في شبوة وعدن، فالوضع مرهون بمدى تماسك قبضة المجلس الانتقالي عليهما، والتي إن ضعفت، قد تفتح الباب أمام مشاريع مشابهة.
وفي الشمال، تظهر ملامح مشاريع جاهزة لإعلان الحكم الذاتي، كما هو الحال في منطقة تهامة، وكذلك في محافظة إب حيث يجري الترتيب لكيانات جديدة فيما يُعرف بـ"المنطقة الوسطى". وهذه الكيانات المحتملة ستُضاف إلى كيانات قائمة فعلًا: الحوثيون في صنعاء، حزب الإصلاح في مأرب، وطارق صالح في المخا.
الواضح أن هذه المشاريع لا تستهدف بناء دولة، بل تهدف إلى تقسيم اليمن وإلغاء فكرة الدولة من أساسها. فجميع هذه الكيانات، عاجزة بطبيعتها عن التحول إلى كيانات مستقرة وفعّالة ضمن صيغة اتحادية حقيقية، كما أنها غير قادرة على تأسيس دول ذات سيادة ومعترف بها دوليًا. فطبيعة الواقع اليمني، والمحيط الإقليمي، لا يسمحان بنشوء دول ذات استقلال حقيقي.
حتى تقسيم اليمن إلى دولتين، رغم صعوباته القانونية والسياسية، لن يؤدي إلى قيام دولتين قادرتين على البقاء؛ بل إلى كيانين غارقين في صراعات متبادلة، وارتماء في أحضان القوى الخارجية. أما التقسيم تحت مظلة الاتحاد، فهو الأسوأ، لأنه سينتج كيانات صغيرة وهشة، بلا مقومات سياسية أو اقتصادية أو تاريخية، خاضعة بالكامل لأجندات خارجية كانت ولا تزال تسعى لإنتاجها.
الدولة اليمنية الوحيدة الممكنة هي الدولة المركزية القوية، التي تُبنى على مشروع وطني جامع، وتستند إلى مؤسسات وليس إلى كيانات تعتمد على أفكار طائفية أو مطامع عائلية أو سلالية ونزعات مناطقية انعزالية. فهذه الكيانات غير قادرة موضوعيا وفنيًا على إقامة دولة مركزية، كما أنها تظل رهينة للقوى الأجنبية الداعمة لها، والتي ليس من مصلحتها إقامة دولة واحدة.
الدولة المركزية القوية هي وحدها القادرة على تحقيق السيادة، من خلال منع التدخلات الخارجية، وإنهاء الكيانات التمزيقية، وارساء أسس الاستقرار السياسي والتنمية الشاملة. غير أن هذه الحقيقة تظل مغيبة أو مرفوضة من قبل كثيرين في اليمن، ممن بنوا مشاريعهم على يمن ممزق، سواء بحسن نية أو بدافع انتهازي. فالبعض انساق دون وعي خلف هذه المشاريع، بينما وجد فيها آخرون فرصة للنفوذ والمكانة، وهي مكانة مستمدة غالبًا من ارتهانهم للخارج.