ليس تباكيًا على الشهيد جار الله عمر، ولا تعصبًا للمرصد الحقوقي السوري، وإنَّما وفاءً لمشروع الدولة.
واضح تمامًا أنَّ الإشكالية التي مرت بها اليمن بعد عام 1990، تَمرُّ بها سوريا الآن، وإن كانت بقدر أعلى، وهو التحجر في تحديد مصادر التشريع في الدستور. مع فارق أنَّ إشكاليتنا كانت إثر وحدة ارتجالية غير مأمونة العواقب بين دولة شبه مؤسسية، وأخرى "كهنوعسقبلية"؛ بينما إشكالية سوريا تأتي إثر تهاوي نظام دكتاتور احتكر القرارات السيادية في أيدٍ محدودة من المحيطين به، ولا شراكة فيها للشعب بمختلف تنوعاته.
بادئ ذي بدء، كان تحديد مصادر التشريع في الدستور مبررًا لمتشددي الإخوان المرتهنين أو المصنعين في الرياض لمناهضة الوحدة بصورة سطحية فجة زائفة تشابه تكفير الإمام لثوار 1948م؛ إذ تَمَّ شحن وتهييج المجتمع بحجة المساس بعقيدته، واستغلال نسبة الجهل العالية بين أبنائه واستفزازهم؛ كي يتعاطوا مع الأمر بانفعال وسطحية، وكان الهدف تكفير الخصوم السياسيين، وتبرير الإعدامات (للمدسترين) التي تمَّتْ بعدها؛ وذلك بِحُجَّة أنَّ الدستور شخص نصراني يرتدي البنطلون، ومعه المارقون من الثوار، وفي صدارتهم أحمد النعمان، والعراقي جمال جميل، وغيرهما من جيل الشباب.
لم يسفر فجر الوحدة والإعلان عنها حتى تماشت معها قوى الإسلام السياسي وفقًا لإملاءات خارجية من الرياض؛ كاستراحة مؤقتة تمهيدًا لتشويه شريك الوحدة الحزب الاشتراكي اليمني في المرحلة التالية؛ وذلك بغرض شن حملة تكفير ضده؛ وبالتالي إباحة الجنوب، ومحاولة طمس هويته اليمنية، وتفكيك مؤسساته، وتسريح موظفيه، ونهب ثرواته باعتباره فتحًا من الله ونصرًا مبينًا.
التبييت للمؤامرة أوضحه عبدالله الأحمر في مذكراته أنَّ صالح أوعز إليهم الخروج من عباءة المؤتمر الشعبي العام، وتشكيل حزب ذي طابع ديني، وأنه مع الأشقاء في المملكة كفلاء بدعمه، وحدد لهم مهامهم؛ كونه مقيدًا باتفاقيات مع الاشتراكي لا يستطيع التنصل منها، وستكون مهمتهم الخروج عن هذه الاتفاقات، وشحن العاطفة الدينية كمقدمة لاحتلال الجنوب باسم الشرعية الدستورية، والانقلاب على الوحدة السلمية وتعميدها بالدم!
لم يتوقف شجعان الرأي في صفوف الحزب الاشتراكي عن محاولات الإيضاح لذوي العقليات التي حرمت النضج الفكري، ما جعلها تكثر التشدق، وكأنها تمتلك الحقيقة المطلقة فيما الآخرون على ضلالة، وتتباهى بتعالٍ مقيت في إصدار أحكام مسبقة على الآخرين وتكفيرهم دون الإصغاء إلى رأيهم أو الاستفادة من الفاروق: "أصابت امرأة واخطأ ابن الخطاب"، أو مقولة الإمام الشافعي: "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأيك خطأ يحتمل الصواب".
يجب اليوم أن يعي هؤلاء أنَّ الشهيد جار الله عمر ليس آخر شجعان الاشتراكي، فهناك الكثير من تلاميذه، وما يجب التذكير به أنَّ الشهيد تعرض لحملات تحريض مسعورة في العامين السابقين لاغتياله، وقد تصاعد لهبها قبل أشهر من اغتياله بعد أن استُدعِيَ إلى إحدى الندوات، ووقع خلالها مع شباب متشددين في أخذ ورد حول مصادر التشريع في الدستور، وكانت رؤيته ناضجة، وحجته داحضة ومفيدة للمختلفين معه؛ الأمر الذي فتح لهم آفاقًا واسعة لرؤية تتجاوز قصور فكرهم الأحادي الجامد والمتموضع في زاوية ضيقة.
تمكن الشهيد الأستاذ جار الله من إرشاد الشباب المختلفين معه وإخراج عقلياتهم من الصندوق المغلق بتساؤلات بسيطة تنقلهم من التفكير الببغاوي القائم على النقل، إلى التفكير المنطقي المنبثق عن العقل، وبحسب ذاكرتي كانت تساؤلاته تدور حول:
هل هناك نص في الكتاب أو السنة يقنن إنشاء بيت مال المسلمين، وكذلك إنشاء الدواوين، والبريد، أم أنه اجتهاد العقلية الفذة للفاروق -رضي الله عنه- ومن بعده عبدالملك بن مروان؟!
فما تم لإنشاء الدولة في العصور الإسلامية المبكرة، كان اجتهادًا يتماشى مع مبادئ الشريعة الإسلامية السمحاء باعتبارها جاءت لمصلحة الإنسان في كل زمان ومكان، وكذا الاستفادة من تجارب الأمم السابقة.
وكان التساؤل الآخر للشهيد جار الله:
هل يوجد نص في الكتاب والسنة ينظم قواعد المرور، أم أنَّ ذلك اقتضته تطورات وسائل الحياة؟ فقد كان هناك اجتهادات أخذ بها، وتم تقنينها، وطرأ عليها تعديلات وتطويرات من حين إلى آخر حتى رست على ما هي عليه.
وبمثل ذلك يقال عن تقنين الأحوال الشخصية، والجوازات، والموانئ، والخدمة المدنية، والمطارات... الخ.
وبالتأكيد تم تضافر اجتهادات عديدة وتجديدها وتحسينها على مدى قرون، لترسو على هذا النحو، وبصورة تتجدد لتتماشى مع مصالح الإنسان في كل زمان ومكان؛ وهذا ما جاءت من أجله القوانين السماوية والأرضية، وحفلت به شريعتنا الغراء؛ وبالتالي يستوجب أن يكون الإسلام مصدرًا رئيسًا للتشريع، وهناك مصادر فرعية تتماشى مع مبادئ ديننا الحنيف.
اللغط السطحي ذاته عاد إلى الواجهة أثناء مؤتمر الحوار الوطني عام 2013 م، ولاحظنا التخندق في مربع واحد من قبل قوى الدين السياسي الواهمة باستعادة حكم القرون الوسطى الوراثي القائم على الغلبة، سواء باسم الولاية، أو الخلافة، أو الإمارة.
أشار الدكتور ياسين سعيد نعمان، في برقية عزائه، المتضمنة في كتاب أربعينية الشهيد جار الله، إلى أنَّ نقاشات وجلسات كثيرة جرت مع شركائهم في الوحدة: المؤتمر، والإصلاح، وخلالها سمع ولاحظ غير مرة بعضًا منهم يتهامسون بسخرية تجاه أي طرح عميق يقدمه بجلاء ساطع الشهيد جار الله عمر، وينعتونه بفقيه الحزب!
لقد بات من المتوجب على الأدعياء والمتشدقين باسم اليسار والقومية، والتيار المدني المتخفف من الأثقال (الكهنوعسقبلية) في التجمع اليمني للإصلاح، وكذا الذين كانوا مهمشين ومستبعدين من قرار المؤتمر الشعبي، أن يرفعوا أصواتهم عاليًا في موقف جاد إلى جانب المرصد السوري لحقوق الإنسان الهادف إلى بناء دولة المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات، وبما يسد الثغرات أمام الكيان الصهيوني، الذي أثخن جسد سوريا بالثغرات، مستغلًا النهج الشمولي للنظام الدكتاتوري المتلاشي.
ما يجري في سوريا من استقواء يرمي إلى فرض رأي أحادي لن يفضي إلى استقرار سوريا والحفاظ على جغرافيتها من التمزيق، ونسيجها الاجتماعي من التفتيت والتناحر الدائم.
من الحماقة أن نبحث عن معالجة الإشكاليات المتفاقمة لأي قطر عربي برؤية غير شاملة ومترابطة، وحصره بمعزل عمَّا يجري في محيطه الإقليمي، ونحن في عصر الكوكبة، وتداخل مصالح العالم المشروعة وغير المشروعة.
المرصد السوري لحقوق الإنسان كان النافذة الوحيدة في كشف معظم جرائم نظام الأسد، وأراهن أنه لن يقف عن الحفاظ على مهنيته في رصد جرائم من بعدهم من الفصائل، والتعاطي معها بمهنية إنسانية متجردة فحسب، بل سيتجاوز ذلك إلى التوعية الحقوقية والتنوير القانوني للشعب السوري وأشقائه، في طريق رسم الخطوط العريضة لبناء الدولة المدنية المتولدة عن شراكة وطنية حقيقية؛ دولة المواطن القائمة على المساواة في الحقوق والواجبات، وتكافؤ الفرص في التأهيل والتدريب والتنصيب، والتوزيع العادل للمشاريع الخدمية الإنسانية؛ تلك الدولة التي مازالت معظم الشعوب العربية تناضل في سبيل قيامها.