كان أول لقائي بالأستاذ الأديب والشاعر الكبير عبدالله أحمد سعيد القاضي، في العام 1993م، وتحديدًا في فترة التنسيق لمرشحي البرلمان في أول انتخابات برلمانية يمنية بعد تحقيق الوحدة اليمنية.
كان ذلك اللقاء في منزل الأستاذ أحمد عبدالرحمن العليمي الذي أقام مأدبة غداء على شرف الأستاذ عبدالعزيز منصور يحيى محمد الزبيري؛ مرشح الحزب الاشتراكي في الدائرة (68) التابعة لمديرية المواسط، قبل تقسيمها إلى ثلاث مديريات.
كنت يومها السكرتير الإعلامي للحملة الانتخابية للأستاذ عبدالعزيز الذي تعرفت بواسطته على الأستاذ عبدالله القاضي، وكان قد سبق لي أن سمعت عنه كثيرًا من الأستاذ عبدالله يحيى الزبيري، ومن المهندس عبدالقادر الزبيري، ومن كثير من شباب الشُّعُوبَة الذين درسوا عليه في سبعينيات القرن الماضي، بمدينة تعز، وتتلمذوا على يده في أكثر من مدرسة.
من خلال لقائنا في منزل الأستاذ أحمد العليمي، في شارع المصلى بمدينة تعز، استطعت، ولأول مرة، أن أتعرف على موسوعة شاملة في الشعر، والأدب، واللغة، والسياسة، والفلسفة، وخرجت بانطباع رائع عن هذا الرجل الذي تمنيت أن أكون تلميذًا يتلقى العلم والمعرفة على يديه.
وفي ذلك اللقاء، زودني بنصائح ووصايا كثيرة لضمان نجاح صديقه الأستاذ عبدالعزيز الزبيري في الانتخابات البرلمانية المزمع إجراؤها في أبريل 1993م، وكان كتبها لي في ورقة، واضعًا في سطورها رؤوس الأقلام الضامنة لنجاحه.
كان مضمون وصاياه يدور حول طريقة التخاطب مع الجماهير في اللقاءات العامة، وكيف نصل إلى الناس بأبسط الطرق وبأقلِّ الخسائر.
أذكر يومها أنه قال لي: إنَّ الاشتراكي لا يتخاطب مع الجماهير بلغة المال؛ وهذا سيشكل المعضلة الأكبر التي ستواجه أغلب مرشحيه في الشمال مِمَّن لا تقف خلفهم قبائل وعشائر لها حضور واسع في أوساط المجتمع لدعمهم على مستوى الجماهير، أو على مستوى المال والمادة.
كان القاضي يتوقع جازمًا نجاح صديقه الأستاذ عبدالعزيز منصور يحيى الزبيري؛ كونه ينتمي لأسرة مناضلة ذات حضور قبلي واسع في قضاء الحجرية؛ إضافةً إلى أنَّ جدوده وآباءه عملوا في سلك القضاء الخاص بالدولة، ولهم دراية ومعرفة واسعة بالقضاء القبلي والعرفي، ويحظون بسمعة طيبة ونزاهة مشهودة في منطقتهم؛ فلم تتلوث أيديهم بالحرام.
اشتهر عبدالعزيز منصور الزبيري، قبل ترشحه للانتخابات، بالزهد، والعدل، ونقاء الضمير، والصدع بكلمة الحق. وبعد موت والده القاضي منصور بن يحيى الزبيري، في أحد مستشفيات الهند، رشحته قبيلة «الشُّعُوبَة» للعمل بالقضاء خلفًا لوالده الذي اشتهر بالحزم، وقوة الشكيمة، والشجاعة، والانتصار للمظلومين، وكان على اتصال بكل رؤساء الجمهورية بعد قيامها.
وعندما كان أحد مسؤولي محافظة تعز ينحرف عن مساره، لا يتردد القاضي منصور بالذهاب إلى صنعاء والتوجه للقصر الجمهوري للقاء المعنيين؛ ليعود وبيده أمر رئاسي بعزل ذلك المسؤول الفاسد.
وفي سبيل ذلك خسر القاضي منصور أغلب أراضيه في القرية في متابعة هذه القضايا التي تمس حياة المواطنين، وتعبر عن آمالهم وآلامهم. وكانت هذه المواقف أحد أسباب فوز ابنه القاضي عبدالعزيز.
كان الأستاذ عبدالله القاضي على يقين من فوز صديقه الأستاذ العزيز، وهو ما كان فعلًا.
بعد ذلك، وفي العاصمة صنعاء، التقيته في شارع الزراعة في مكتب صديقه الأستاذ عبدالعزيز منصور الزبيري، بعد أن غادر البرلمان بحوالي خمس سنوات، وعندما شاهدني عبدالله القاضي تذكرني رغم تغير ملامحي بمرور السنين، والعجيب أنه تذكر كل كلمة تحدث بها إليَّ في لقائنا بشارع المصلى بتعز، قبل حوالي عقدٍ من الزمن.
تكرر لقائي به بصنعاء مراتٍ عديدة؛ في بيته الكائن بحي الصافية الذي تحولت غرفه إلى مكتبة مليئة بالكتب والأوراق. وفي هذا المنزل تعرفت على وزير الثقافة الأسبق الأستاذ خالد الرويشان؛ وهو الوزير الذي لم يشغله المنصب عن تذكر أصدقائه، وعلى رأسهم عبدالله القاضي.
للقاضي مريدون كُثُر، وزوار لا يقلون عنهم كثرة؛ إمَّا في مقر عمله بمركز الدراسات والبحوث اليمني، وأبرزهم الأستاذ منيف الزبيري، والأستاذ وضاح عبدالباري طاهر الأهدل، والأستاذ عبدالله عبدالمجيد (غاندي)؛ أحد كتاب أشعار الأستاذ البردوني في فترة عمله مدرسًا بالمعهد العسكري للغات بصنعاء، وإمّا في بيته، وكنت أنا ضمن هذه الكوكبة كأحد مريدي هذا المتصوف الزاهد طوال الفترة التي قضيتها في صنعاء لمدة 23 عامًا.
استعنت به كثيرًا لمراجعة دواوين الشاعر محمد بن يحيى الزبيري، وكان الملهم لي في كثيرٍ من الأحيان، ومنه تعلمت طريقة المراجعة اللغوية حين عملت مراجعًا لغويًّا لأكثر من صحيفة في العاصمة صنعاء.
ولايزال يرنُّ في أذني مديح وافتخار الأستاذ العلامة الشاعر الأديب اللغوي محمد يحيى الزبيري، كون عبدالله القاضي أحد طلابه النجباء ممن أخذوا على يديه اللغة والنحو والصرف والعروض والقوافي وعلوم البلاغة، وكان يقول: إنه التلميذ الذي فاق معلمه حسب ما يُروى عن ابن الزبير رحمه الله، ورحم تلميذه الأستاذ الشاعر الصوفي عبدالله القاضي الذي خسرت اليمن برحيله علمًا من أعلامها، ورمزًا من رموزها الأدبية والثقافية الكبيرة.
أسأل الله أن يجبر قلوبنا بهذا المصاب الكبير، وأنْ يتغشى روح أستاذنا بالرحمة والغفران، وأن يدخله فسيح جناته.. وسلام عليه في كل وقت وحين.