بعدما أخذت ما أحتاج إليه من الخضار، نقدت المحاسب ورقتين من فئة الألف ريال، في طريقهما إلى الاهتراء. فأعاد لي ورقة من فئة خمسمائة ريال وورقتين من فئة المائة ريال وحبتي شوكولاته صغيرتين مقابل ما تبقى من المبلغ، وهو خمسون ريالًا، لعدم توفر أوراق من هذه الفئة.
كانت الأوراق الثلاث التي أعطانيها المحاسب مهترئة جدًا. قلبتها بيدَي، وكأنه توقع أن أطلب منه استبدالها. فبادرني قائلًا: "والله ما معي إلا من هذي الأوراق. وقد أعطيتك أنظف شيء عندي". وضعتها في جيبي معلقاً: "أنا لا أفكر في نظافتها، بل في اهترائها، وفي عمرها الافتراضي، وكم ستبقى صالحة للتداول، فهي كلها مرقعة ترقيع، وكأن كل ورقة منها مكونة من أوراق مختلفة". رد باستعجال، وهو يحاسب مشتريًا آخر: "والله يا أستاذ إننا كلنا قد إحنا مرقعين، ما عاد فينا واحد سلم. لكن لا تخاف... عادها با تمشي. الحمد لله أن سعرها ثابت. شوف العملة الجديدة التي عادها تبرق، وسعرها ينهار كل يوم، لما أصبحت قيمتها أقل من ربع قيمة هذي المرقعة، ومش بعيد يجي يوم تصبح فيه بلا قيمة".
عدت أدراجي إلى البيت وأنا أفكر بهذا الحوار القصير، وبموضوع العملة القديمة التي اهترأت، وسيكون من الصعب خلال فترة قصيرة أن تبقى صالحة للتداول، ومع ذلك مايزال سعرها ثابتًا في المحافظات التي تسيطر عليها سلطة صنعاء. رغم أن مصدر الدعم الرئيسي لهذه العملة منتزع انتزاعًا من جيب المواطن البائس، المغلوب على أمره. في حين أن العملة الجديدة، في المحافظات التي تسيطر عليها سلطات أخرى، ينهار سعرها دون توقف. رغم توفر الثروة النفطية والغازية والمساعدات الخارجية، التي يمكن أن تدعم قيمتها وتثبت سعرها، لو استيقظت الضمائر وحسنت النوايا وعفت الأيدي.
وعندما جن الليل ونامت المدينة نمت معها، واستبدلت كغيري من سكانها كوابيس النهار بأحلام الليل. فحلمت مثلهم بأشياء جميلة، غدت من الأماني المكبوتة، التي أصبح تحقيقها في عالم اليقظة ضربًا من المستحيلات، كصرف الرواتب والمعاشات واحتفاظها بقيمتها الشرائية القديمة، وضبط أسعار المواد الاستهلاكية، وتأمين الخدمات العامة، وتحييد الاقتصاد وإبعاده عن سوق المناكفات والصراعات السياسية، وتشغيل البنوك المعطلة وتفعيل دورها وإعادة أموال المودعين فيها، الذين حُجزت مدخراتهم، فتحولوا من الاكتفاء إلى العوز، وانضموا إلى صفوف الفقراء، وتوحيد العملة الوطنية وتثبيت سعرها وإتلاف المهترئ منها، وتوحيد الوطن، الذي يبدو أننا جميعًا مصممون على المضي في تمزيقه وشرذمة شعبه.
وقد رأيت في ما يرى النائم أننا عدنا إلى طريقة المقايضة في تبادلنا التجاري. وهي طريقة مايزال أبناء جيلي يتذكرونها، رغم أنها أول طريقة تبادل عرفها الإنسان، قبل أن يخترع العملة النقدية ويتداولها منذ ما يقارب ثلاثة آلاف عام، كما يقال. وقد توقف التعامل بالمقايضة، لأنها طريقة لم تكن تصلح لكل التعاملات. فهي تعتمد على حاجة كل طرف من أطراف التبادل، للسلعة التي يمتلكها الطرف الآخر. وإذا انتفت حاجة الطرفين أو أحدهما، أصبح التبادل غير ممكن. من هنا تولدت الحاجة إلى سلعة تصلح للاستخدام في كل مكان وفي كل وقت، سلعة تقيَّم بها كل السلع الأخرى، وكل شخص يمتلكها يمكنه أن يبادل بها أية سلعة يحتاجها. وكانت هذه السلعة هي النقود. هذا الاختراع العظيم يكاد في حياتنا اليمنية ينتهي مفعوله. ففي جزء من الوطن، لم يبقَ من هذا الاختراع سوى شبحه: أوراق قديمة تجاوزت عمرها وتمزقت أوصالها وامحت معالمها وأصبح معظمها مكونًا من رقع متلاصقة، متعددة المنشأ، ومع ذلك فقيمتها ثابتة، بقرار من السلطة الحاكمة. وفي الجزء الآخر من الوطن أوراق جديدة، ولكن لا يمكن الركون إليها ولا يطمئن لها المتعاملون بها، بسبب تدهور قيمتها كل يوم، ربما أيضًا بقرار من السلطات الحاكمة، أو بسبب عجزها وقلة حيلتها.
وأتذكر هنا وأنا أتحدث عن حلمي، الذي أعادني إلى طريقة المقايضة في التبادل التجاري، أن المقايضة كانت ماتزال موجودة في قرانا، قبل ثورة 26 سبتمبر 1962م، لقلة كمية النقود المتداولة في السوق حينذاك، وكلها كانت نقودًا معدنية، إما من الفضة أو من النحاس. فكنا نحصل، مثلًا، مقابل كمية من الذرة، على جونية (شوالة) من الملح المأربي، من تجار الملح القادمين من مأرب، المتجولين في مناطقنا بجمالهم المحملة به. وكان هناك تجار متجولون أيضًا، يبيعون سلعًا أخرى صغيرة، من صنع محلي شبه بدائي، كالسكاكين والملاقط والمناطب والمخايط، فنبادلهم بسبول (سنابل) الذرة. ومع أن طريقة المقايضة هذه اختفت من أسواق العالم منذ قرون، فقد ظلت منتشرة في قرانا إلى عهد طفولتي.
وكم سيكون جميلًا أن تنبعث هذه الطريقة البدائية البسيطة غير المعقدة، أن تنبعث من جديد لتحل محل العملة الورقية المهترئة، والعملة الجديدة التي تفقد قيمتها كل يوم. ولكن هناك مشكلة حقيقية تحول دون عودة هذه الطريقة الأكثر أمانًا، وهي أننا لا نملك ما نبادل به. على خلاف ما كنا عليه في السابق. فكل بيت في القرية كان ينتج سلعًا قابلة للتداول، كالحليب واللبن والسمن والدجاج والبيض والذرة بأنواعها، البيضاء والصفراء والحمراء، والقمح والشعير والعلس والدخن، عدا عن التبن والعجور. وبعض البيوت كان ينتج العسل أيضًا، ويربي الأغنام والخراف إلى جانب الأبقار، التي لم يكن يخلو منها بيت من البيوت. فنمط الحياة الجديدة أفسد اكتفاءنا الذاتي، وصرنا نعتمد في تأمين كل احتياجاتنا على السوق. وعلى هذا النحو فقدنا كل ما يمكن أن نبادل به، وغدت العودة إلى طريقة المقايضة مستحيلة، مع الأسف الشديد.
ولكن ما هو مستحيل في اليقظة لا يكون مستحيلًا في المنام. فالرغبات المكبوتة، بحسب علم النفس، تظهر للمرء في منامه بصورة رمزية. وهذا يقودنا إلى موضوع آخر، وهو تفسير الأحلام، الذي لو خضنا فيه لتهنا بين مدارس علم النفس المختلفة، التي تعتبر الأحلام بصورة عامة، تمثُّلات رمزية لأحداث ماضية أو لرغبات مكبوتة أو لتطلعات مستقبلية، مختزنة جميعها في العقل الباطن، تنبعث عندما ينام العقل الواعي. وهناك من فسر ويفسر الأحلام تفسيرًا مستقبليًا، باعتبارها تمثُّلات رمزية تنبئية لما سيحصل في المستقبل، كما فعل يوسف عليه السلام، في تفسير حلمَي زميلَيه في السجن.
وهكذا وجدت نفسي في السوق، أشاهد عملية المقايضة المغرقة في القدم، تمارس أمام عينيَّ. وللقارئ أن يفسر ما شاهدته في حلمي كما يشاء. وأكثر ما أدهشني، أن الإنسان أصبح مادة للمقايضة. وكان من الواضح أنه أضحى أرخص سلعة في السوق. فبعض التجار كان يبادل عددًا من الأشخاص بسلعة معينة. ويختلف سعر الشخص بحسب وظيفته. فالموظف العادي، مثلًا، له سعره، والأكاديمي له سعره، والمدرس له سعره، والطبيب له سعره، والشرطي له سعره، والجندي له سعره. أما العاطل عن العمل فلا قيمة له، إلا إذا كان شحَّاذًا. فسوق الشحَّاذين رائجة هذه الأيام في كل أنحاء اليمن. ولكنها قد تصبح سوقًا راكدة عما قريب، عندما يزداد العرض على الطلب، بفضل رعاتنا الذين لا يألون جهدًا في توسيع دائرة الفقر، ودفع مزيد من أبناء الشعب إلى أسواق التسول. وكأني بهم قد أساؤوا فهم حديث الرسول الأعظم، صلى الله عليه وسلم: "كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤول عن رعيَّته".
وما زاد من دهشتي أنه تم مبادلة عشرين مدرسًا يمنيًا بمدرس واحد من أبناء أحد الأقطار العربية الغنية. وقد أثار هذا الأمر فضولي، فسألت التاجر عن سر رخص المدرس اليمني، هل هو مؤهله الدراسي وكفاءته العلمية، أم أداؤه التدريسي؟ فأجابني: "لا هذا ولا ذاك، بل هو الراتب. فذاك مدرس عربي مكتفٍ ويستلم راتبه بانتظام. وهذا مدرس مفلس، ليس له راتب يُذكر، وإذا استلم راتبًا كاملًا في بعض المناطق، أو نصف راتب، بين الحين والآخر، في مناطق أخرى، فإنه لا يكفيه لبضعة أيام، بسبب انهيار سعر العملة الوطنية وغلاء أسعار المواد الاستهلاكية، وعدم اكتراث حكام هذا الزمان، الذين كثر عددهم وقلت بركتهم. أما لو بادلنا مدرسِين يمنيين بمدرسِين أوروبيين، مثلًا، فإننا، وبحسب حركة العرض والطلب في السوق، قد نبادل خمسين مدرسًا يمنيًا بمدرس أوروبي واحد، ونكون رابحين. فالمسألة هنا تقاس براتب كل منهم. لقد رخصت قيمة الموظف والأكاديمي والمدرس، وغيرهم من أصناف اليمنيين، وركدت سوقهم، وأصبحت مخازننا مملوءة بهم، ونجد صعوبة في تصريفهم، رغم أن صنفهم ومعدنهم من أفضل أصناف ومعادن البشر في العالم. ولكنهم غير مطلوبين مع الأسف. لذا فقيمتهم رخيصة كما ترى. فما رأيك، ماذا نعمل بمن تسببوا لنا بهذي (البورة)، وصموا آذانهم عن أصوات الجياع ومناشدات المواطنين؟".
احترت في كيفية الإجابة على هذا السؤال الذي أنهى به التاجر حديثه، والذي خُيِّل إليَّ كأنه مطرقة هوى بها على رأسي، فاستيقظت مذعورًا، وتلفت حولي، وأدركت شيئًا فشيئًا أن ما كنت أشاهده وأسمعه، لم يكن سوى أضغاث أحلام، وصورٍ رمزية لواقع مزرٍ، رخُص فيه المواطنون، واستنسر فيه البغاث، وساد فيه الجنون.