الصراعات بين البشر ظاهرة إنسانية تزامن وجودها مع وجود الإنسان على وجه الأرض. وتستمد خصائصها في كل مرة من بيئتها ومن الظروف المحيطة بها، التي تعطي لكل صراع مظهره الخاص، المختلف بهذا القدر أو ذاك عن غيره.
ومع ذلك فإن العوامل الموضوعية المحركة للصراعات تبقى واحدة في جوهرها، وأهمها النزوع البشري إلى الاستحواذ على الثروة والاستئثار بالسلطة. وتُستخدم عادة ذرائع شتى لتمويه هذه العوامل والتلطيف من طبيعتها الخشنة، المنافية لحالة التعايش والتفاهم السوية. وأبرز الذرائع التي استُخدمت عبر التاريخ البشري هي الذرائع الدينية. وقد وهم مؤرخون وكتاب، فأعطوا للصراعات تفسيرات متطابقة مع تلك الذرائع. ولا تُستثنى من ذلك الصراعات التي شهدها اليمن عبر تاريخه.
ويمكننا هنا أن نأخذ مثالاً من التاريخ اليمني المعاصر، يؤكد الدوافع الدنيوية للصراعات، مع تفسيرها تفسيراً دينياً مذهبياً مخالفاً لحقيقتها:
فقد اختلف تعامل الإمام يحي مثلاً _ ومن بعده ابنه أحمد _ مع المناطق الشمالية، ذات الغالبية الزيدية، عن تعامله مع مناطق الوسط والجنوب، ذات الغالبية السنية، وأضحى اختلاف التعامل هذا موضوعاً لتفسير ديني مذهبي. إما رغبة في استخدامه لتمويه الصراعات ذات الأهداف الدنيوية، أو لسهولته، إذ لا يحتاج إلى جهد ذهني، للوصول إلى الأسباب الحقيقية للصراعات. لذا أضحى هو التفسير الشائع، الذي يُنظر إليه على أنه من المسلمات، التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.
ومن الواضح لمن لديه قدر من التبصر والتدقيق، أن هذا النوع من التفسيرات لا حظ له من الصحة. فانتشار المذهب الزيدي في مناطق الشمال لم يكن ناتجاً عن اقتناع سكانها بالفكر الزيدي، الذي لا يفقهونه، بل بسبب وجود الأئمة الزيديين في هذه المناطق وارتباط القبائل معيشياً بهم وبحروبهم. وأكبر دليل على أن سكان هذه المناطق لا يفقهون المذهب الزيدي ولا يتمسكون به ولا بغيره من المذاهب، أن الوهابية في العقود القليلة الماضية انتشرت في أوساطهم بسهولة، رغم اختلافها عن المذهب الزيدي. وذلك عندما رأى مشايخهم أنها أكثر نفعاً لهم. ونلمس اليوم بداية انتشار بعض الأفكار الصادرة عن مذهب شيعي آخر، وهو المذهب الاثنا عشري، المختلف أيضاً في مبادئه الأساسية عن المذهب الزيدي (المهدية والرجعة وعصمة الأئمة والتقية ورفض خلافة أبي بكر وعمر). فسكان الشمال مسلمون وحسب، ولا يخوضون في المذاهب وتفاصيلها واختلافاتها. إذ أن طبيعة حياتهم وثقافتهم الدينية لا يتسعان لذلك. ولذا فإن التفسير العلمي الصحيح لاختلاف التعامل هذا، لابد أن ينطلق من اختلاف البنية الاجتماعية في كل من مناطق الشمال ومناطق الوسط والجنوب، التي كونتها طبيعة الأرض والنشاط الاقتصادي.
ففي مناطق الشمال كانت البنية الاجتماعية وما تزال بنية قبلية متماسكة، تنقاد لمشايخها، وفي داخلها مقاتلون، صلَّبتهم طبيعة مناطقهم القاسية وأرضهم قليلة الإنتاج، وشكل القتال بالنسبة لهم مصدراً ضرورياً للمعيشة. هذه الخاصية استفاد منها الأئمة الزيديون، كما استفاد منها حكام آخرون، ممن أنشأوا كيانات سياسية في هذه المنطقة أو تلك من مناطق الشمال، كاليعفريين والاسماعيليين في دولتهم الأولى (دولة منصور اليمن)، وفي دولتهم الثانية (الدولة الصليحية)، وغيرهم.
وفي مناطق الوسط والجنوب تشكل الزراعة مصدر المعيشة الأساسي، حيث تجود المحاصيل الزراعية في المناطق الوسطى، بصورة خاصة. إضافة إلى التجارة، التي كانت في الواقع محدودة، في عهدي الإمامين يحي وابنه أحمد، ولم تلعب حينذاك دوراً مهماً في اقتصاد اليمن. ونظراً لارتباط الفلاح بالأرض وبمالكها، غلب الطابع شبه الإقطاعي على علاقة الفلاحين بملّاك الأراضي، ووهت الروابط القبلية، وأضحى المواطن (الرَّعَوِي) لصيقاً بالأرض الزراعية وأميل إلى المسالمة والخضوع للدولة وأجهزتها المختلفة.
وهذا هو الأساس الذي انطلقتُ منه في وضع مصطلح (شيخ الأرض)، بمقابل شيخ القبيلة، للتمييز بين الشيخ الذي يستمد مكانته ونفوذه من ملكيته للأرض، وبين الشيخ الذي يستمد مكانته ونفوذه من زعامته لقبيلته. وهو تمييز منهجي، وجدته ضرورياً لتفسير علاقة كل منهما بالسلطة الحاكمة من ناحية، وبأبناء منطقته، من ناحية أخرى. وهي علاقة مختلفة في الحالتين. تجسد حالة اختلاف البنية الاجتماعية، الناتجة عن اختلاف النشاط الاقتصادي (أنظر: حركة المعارضة اليمنية في عهد الإمام يحي بن محمد حميد الدين، دار الآداب، بيروت، 1983م، ص 134 وما بعدها).
على هذا النحو انقسم المجتمع اليمني إلى فلاحين ومقاتلين. أولئك ينتجون وهؤلاء يعيشون على إنتاجهم. ولم يلعب المذهب الديني دوراً حقيقياً عند هؤلاء ولا عند أولئك. ولعل هذا يفسر التسامح الديني في اليمن، وتعايش أتباع المذاهب المختلفة، رغم الاستغلال السياسي للدين، من قبل الفئات الحاكمة، لتعزيز مواقعها وخدمة مصالحها وأهدافها الدنيوية.
ولكن رغم التسامح الديني في اليمن، فقد كان لتباين دور الإنسان في الشمال عنه في الوسط والجنوب، وانقسام المجتمع إلى عسكر وفلاحين، واستغلال الفئات الحاكمة هذا الانقسام لمصلحتها، كان لذلك أثره في نظرة سكان الوسط والجنوب إلى إخوانهم من سكان الشمال. فقد غدوا في نظرهم أدوات القمع التي يستخدمها الحكام لاضطهادهم وابتزازهم والاستئثار بخيرات أرضهم وثمرة جهودهم. رغم أن سكان الشمال ظلوا ضحية للنظام الحاكم، يستغلهم ويبقيهم على فقرهم وجهلهم ويستمر في تسليطهم على إخوانهم الفلاحين، وكذا تسليطهم بعضهم على بعض، دون أن يعود عليهم ذلك سوى بما يسد الرمق ويبقيهم على قيد الحياة.
هذا الواقع راكم في النفوس نفوراً، يبلغ عند بعض من يعجزون عن تفسيره تفسيراً سليماً، حد الكراهية، التي توظف سياسياً توظيفاً سيئاً، تحت عناوين مذهبية. لا سيما في ظروف الاضطرابات والحروب.
ولأن اليمن غير معزول عن محيطه الإقليمي، فإن ما يحدث في الإقليم وفي العالم، يؤثر على الداخل اليمني. كما أن القوى الإقليمية والعالمية المتنافسة تسعى إلى توظيف التباينات الداخلية في اليمن لمصلحتها، بهدف الاستئثار بموقعه الجغرافي المهم وثرواته الواعدة ومجاورته لبلدان النفط الغنية. ولذا فقد أضحى اليمن ساحة من ساحات الصراع الإقليمي والدولي على النفوذ والثروة. وأخذت كل قوة إقليمية وعالمية تعمل على إحداث خلخلة للبنى الاجتماعية اليمنية وشد أجزاء منها إلى خندقها، وتسخيرها لخدمة مصالحها ومخططاتها، تحت دعاوى مختلفة، على رأسها الدعاوى الطائفية والسلالية والمناطقية.
هكذا هيئ المسرح، ووُظف التنوع الاقتصادي والاجتماعي في الداخل اليمني، الذي هو في الحالة الطبيعية مصدر إثراء وإغناء للحياة بمختلف جوانبها، وُظف لدفع اليمنيين إلى أتون حرب، يراد بها إنضاج عملية التجزئة والتقسيم إلى دويلات ضعيفة متناحرة، تُسخَّر وظيفياً لخدمة المصالح والمطامع الخارجية. ولعل هذا هو هدف القوى الخارجية غير المعلن، لما يدور اليوم في الداخل اليمني، وهو هدف تتغافل عنه القوى اليمنية المتصارعة، إما انسياقاً معه، أو جهلاً به، أو عدم تقدير لمدى خطورته.
لقد رضي كل منا لنفسه أن يتحول إلى أداة في هذا التنافس الدولي والإقليمي، لصالح هذه القوة أو تلك من القوى الخارجية، مستمداً منها الدعم، لإلحاق الهزيمة بأخيه والانفراد بالسلطة والاستئثار بالثروة دونه. غير مدرك بأنه إنما يلحق الهزيمة بنفسه وبوطنه، من حيث يدري أو لا يدري، وأن الثروة لا تخلد والسلطة لا تدوم لأحد. وهكذا تخندقنا في خندقين متجابهين، في مشهد سياسي وعسكري وإعلامي مربك للذهن، تنبعث فيه من كلا الخندقين مشاعر الكراهية المتبادلة والتعبئة المتشنجة، كما تنبعث حجج وذرائع متناقضة، يبرر بها كل متخندق موقفه المعادي لإخوته في الخندق الآخر. وقد انشد بعضٌ من النخب الثقافية والسياسية إلى هذا الخندق أو ذاك، بحماس مفرط، وانطلق يدين كل من يقف في الخندق الآخر، ويستنكر موقف من لا يجيز لنفسه أن يسايره ويأخذ بقناعاته ويتحدث بلسانه.
وفي هذا المناخ الموبوء يغيب دور العقل أو يُغيَّب. فالمتصارعون رغم اختلافهم، متفقون على أمر واحد، وهو عدم الإنصات إلى صوت العقل. فكل طرف من أطراف الصراع لا يقبل بأقل من أن تقف معه وتتعصب له وتتحدث بلسانه وتعبر عن قناعاته. وإلا فأنت عدوه. ولا خيار لك غير هذين الخيارين. فإما مع أو ضد، صديق أو عدو، ولا خيار ثالث بينهما. وكأننا أمام حالة مطابقة لمبدأ الثالث المرفوع في المنطق الصوري، الذي تجاوزه العلم وتجاوزه العقل.
ففي الحرب التي عشناها، ومازال احتمال استئنافها قائماً، هناك في رأي المتصارعين معتدي ومعتدى عليه. وكل طرف له توصيفه الخاص للمعتدي والمعتدى عليه. ومن لا يسلم بتوصيفه دون نقاش، فهو مع الطرف الآخر دون شك. وإذا تكرم وخفف الحكم عليه، فهو متردد أو جبان أو يقف في المنطقة الرمادية ولا يقول صراحة بأن الطرف الآخر هو الطرف المجرم. على هذا النحو بلغ التطرف حدوده القصوى، ولم يعد هناك مكان للعقل، ولا استعداد للرجوع عن الخطأ، ولا سبيل للتصالح من أجل الوطن.
ومع ذلك فإن المسؤولية الوطنية توجب علينا جميعاً أن نمعن النظر في الخندقين المتجابهين، اللذين أصبحا اليوم خنادق متعددة واصطفافات مختلفة، لنتبين القواسم المشتركة بينها، وهي كثيرة، وننطلق منها لصياغة رؤية وطنية تتجاوز كل الخلافات، واتخاذ خطوات عملية تؤدي إلى حلحلة عقد التعصب والتخفيف من الغلو، الذي لا ينتج حلولاً عقلانية ولا يقود إلى مخارج ممكنة من المحنة التي حلت بالوطن، ومن الظلم والظلام اللذين أطبقا علينا.
وهذا لا يعني أن نهمل محاسبة من أخطأوا ومن أسهموا في إيصالنا إلى ما وصلنا إليه، حتى لا تتكرر الأخطاء. ولكن هذا سيأتي وقته، بعد أن نكون قد انتقلنا إلى حالة أفضل من الحالة الراهنة، تكون النفوس فيها قد هدأت، وأسباب الانقسام والصراع قد تم تجاوزها. عند ذلك سيتغير تقييمنا ونظرتنا وطريقة معالجاتنا. وسيكون كل منا أكثر استعداداً لتقبل المحاسبة، وأكثر قابلية للاعتراف بالخطأ والتمسك بالصواب. فالمحاسبة الآن لا جدوى منها، ما دام كل منا متوتراً في خندقه ومشهراً سلاحه. ولن تكون لها أي نتائج إيجابية، بل سترفع من منسوب العناد، وستزيد المواقف تصلباً والنفوس تشنجاً.
وأخيراً هناك مسلمة لا يمكن إنكارها أو الاستخفاف بها أو تجاهلها، تدعم التمسك بالقواسم المشتركة بين اليمنيين والبناء عليها، وهي أن المستقبل المنشود لليمن إذا لم يصنعه اليمنيون، فلن يصنعه أحد غيرهم. ومن القصور في التفكير أن ينتظر اليمنيون غيرهم، من الإقليم أو من خارج الإقليم، ليحل لهم مشاكلهم وينهي خصوماتهم ويبني وطنهم. فهذا أمر لن يحصل، ولن يكون هناك فاعل خير مجاني يبادر لإنقاذهم، إذا لم يبادروا هم لإنقاذ أنفسهم. فكل القوى الخارجية، دون استثناء، مهتمة بمصالحها، وهذا من حقها. ومن حقنا نحن بالمقابل أن نهتم بمصالحنا، التي لن تتحقق إلا بتجاوز ما نحن فيه الآن. والسبيل إلى التجاوز هو التمسك بالقواسم المشتركة بين اليمنيين، والبناء عليها، والانطلاق منها إلى حوار وطني لا يستثني أحداً، هدفه التوافق على بناء دولتنا اليمنية المنشودة، القائمة على أسس الشراكة الوطنية والمواطنة المتساوية والتبادل السلمي للسلطة عبر صناديق الانتخابات. فهذا هو سبيلنا للخروج من المحنة. ولنحتكم دائماً إلى الشعب عند ظهور أي خلافات، لنتجنب الصراعات والحروب التي تحركها غريزة الاستئثار بالسلطة والثروة. فالشعب هو مصدر السلطة والمالك الأصلي للثروة. وعلينا أن نرجع إليه ونصغي إلى صوته وننفذ إرادته وخياراته. ونسأل الله أن يهدينا جميعاً إلى سواء السبيل.