صنعاء 19C امطار خفيفة

المسألة الحقوقية في اليمن

كان من المفترض أن تكون المسألة الحقوقية في اليمن متجذرة بعمق في وعي المجتمع اليمني، ومنظومته القانونية، ومؤسساته المعنية بحقوق الإنسان، نظرًا للتاريخ الطويل من الصراعات السياسية التي شهدتها البلاد في تاريخها الحديث. فعلى سبيل المثال، تقدم رواندا نموذجًا للمؤسسات الحقوقية الحيادية والنزيهة بعد عقود من الصراعات والحروب الأهلية، وكذلك جنوب إفريقيا، التي ارتفعت فيها حساسية المجتمع الجنوب إفريقي تجاه الحقوق والحريات، حتى أصبحت نموذجًا يحتذى به في القارة الإفريقية. في اليمن حدث العكس تمامًا؛ فمع طول أمد الصراع العسكري والسياسي، وتكرار دورات العنف وتصاعد النزاع في العقدين الماضيين، بخاصة في العشرية الدموية الأخيرة، تقلص الدور الحقوقي، وأصبح باهتًا ومراوغًا وغير شفاف. بل أصبحت المسألة الحقوقية أكثر تعقيدًا، واتسعت الفجوة بين الناشطين الحقوقيين وأصحاب القرار السياسي من جهة، وهو أمر متوقع في بلد كاليمن، حيث تتضاءل الحقوق والحريات مع اندلاع موجات العنف، ومن جهة أخرى، زادت حدة الاستقطابات السياسية بين الحقوقيين، مما أثّر على النشاط الحقوقي، لدرجة بات يصعب فيها الفصل بين السياسي والحقوقي، إذ يتم استخدام الحقوقيين كأدوات لتحقيق مصالح سياسية، أو للتأثير في النزاعات الداخلية، أو لتلميع صورة الأطراف أمام المنظمات الحقوقية الدولية في الخارج.
 
للأسف، أظهر بعض الحقوقيين انحيازًا واضحًا للأطراف المتصارعة، متجاهلين ميثاق العمل الحقوقي القائم على الحياد. ومع طول أمد الصراع، أصبح واضحًا أن هناك ثلاثة فرق حقوقية: أحدها يتبع الحوثيين، والآخر يتبع الحكومة الشرعية، إضافة إلى فريق ثالث يقتصر دوره على تقديم تقارير ناعمة لأحد الطرفين أو لكليهما مقابل مصالح شخصية وسفريات خارج البلاد. وهكذا تسيّس العمل الحقوقي تمامًا، وتخلى عن دوره وميثاق عمله، ما أدى إلى تضارب بين الأهداف الحقوقية والمصالح السياسية، وعطل الدور الحقوقي نهائيًا.
 
لقد أضر هذا الخلط بين الدور الحقوقي والسياسي بمصداقية الحركة الحقوقية في اليمن، وأصبحت العديد من التقارير الحقوقية محل جدل وشك، بخاصة عندما تُستخدم لتبرير أو إدانة طرف على حساب الآخر، دون الالتزام بالحياد والموضوعية. يظهر هذا بوضوح في تقارير الأمم المتحدة والمنظمات الدولية لحقوق الإنسان، التي غالبًا ما تكون غير حاسمة وغير واضحة، وكذلك في القرارات الصادرة عن دوائر الهجرة في العديد من البلدان الأوروبية تجاه اليمنيين، وآخرها في هولندا التي صنّفت الوضع في اليمن بأنه "آمن". ويُتوقع أن تحذو دول أوروبية أخرى حذو هولندا، مما سيجعل الهجرة واللجوء لليمنيين أكثر صعوبة. كما برزت مخاوف بعض البنوك الأوروبية بشأن التحويلات المالية إلى اليمن، خشية توجيه الأموال لجهات غير معروفة، مما يزيد من صعوبة التحويلات للمهاجرين اليمنيين. الأخطر من ذلك، هو استغلال بعض المنظمات الحقوقية في اليمن للمساعدات الدولية، وتوجيهها نحو مصالح شخصية، مما أضعف تأثير العمل الحقوقي، وجعله رهينًا للتوازنات السياسية الداخلية والإقليمية، وأدى إلى فتور حماس المنظمات الدولية لتقديم المساعدات.
 
مؤخرًا، حضرتُ لقاءً تداوليًا لمنظمة الصليب الأحمر السويدية، التي تركز اهتمامها على دعم الأطفال والنساء في البلدان التي تشهد صراعات ونزاعات مسلحة، ومنها اليمن. وكان السؤال المطروح: أين تذهب الأموال المحولة؟ إذ هناك قلق حول الجهات المستفيدة من تلك الأموال، لا سيما مع تساؤلات البنوك المركزية السويدية المتكررة حول احتمال استخدام هذه الأموال في غسل الأموال.
 
وظيفة الحقوقي هي الدفاع عن حقوق الإنسان بغض النظر عن دينه أو لونه أو عرقه، بموضوعية وحياد، ودون انحياز لأي طرف سياسي. وتشمل مهامه توثيق انتهاكات حقوق الإنسان من جميع الأطراف، وتقديم الدعم للضحايا، والسعي لإحقاق العدالة. يتطلب هذا الدور أن يعمل الحقوقي من منطلق أخلاقي مستقل، واضعًا نصب عينيه حماية حقوق الأفراد وكرامتهم، وأن يكون هدفه إيصال الحقيقة إلى العالم بصدق، دون الخضوع لأي تأثيرات سياسية أو ضغوط خارجية.
تتطلب وظيفة الحقوقي نزاهةً تامة وحيادًا صارمًا، والابتعاد عن المصالح السياسية والمنافع الشخصية. فالدور الأساسي للحقوقي هو الدفاع عن المبادئ العالمية لحقوق الإنسان، وليس الانحياز لأحد الأطراف أو تغليب مصلحته الخاصة. وفي السياق اليمني، تبرز الحاجة الملحة لوجود حقوقيين مستقلين، يعملون على توثيق الانتهاكات بعيدًا عن ضغوط الأطراف المتصارعة، ويسعون إلى إيصال صوت الشعب اليمني إلى المجتمع الدولي دون تسييس للقضايا.
 
إن تعقيد الوضع الحقوقي في اليمن يعود إلى التاريخ المضطرب للبلاد، وتداخل الأدوار بين السياسيين والحقوقيين، إضافة إلى تحديات الاستقلالية التي يواجهها الناشطون الحقوقيون. ويتطلب تحسين الوضع الحقوقي في اليمن إصلاحًا حقيقيًا، يعتمد على بناء مؤسسات حقوقية مستقلة، وتدريب الكوادر على التمسك بالحياد والمهنية، والعمل على حماية الحقوق بعيدًا عن النزاعات السياسية. كما يجب تفعيل دور الرقابة الدولية والمحلية لضمان الشفافية والمصداقية في توثيق الانتهاكات ومساءلة مرتكبيها، مما يسهم في تأسيس بيئة حقوقية أكثر نزاهة وإنصافًا للضحايا، ويضع أساسًا يمكن الاعتماد عليه في سبيل إحلال السلام في البلاد.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً