استشهد يحيى السنوار، زعيم حركة حماس، في ١٧ أكتوبر، وهو يحمل السلاح كمقاوم يرفض استسلام المقاومة للعدو وفرض شروطه لوقف النار في غزة. استشهد وهو يدافع عن وطنه الصغير غزة بعد أن شردت دولة الاحتلال أسرته من فلسطين المحتلة عام ١٩٤٨. أمضى السنوار ٢٣ عامًا في سجون دولة الاحتلال، وخرج منها وهو أكثر صلابة لمقاومة الاحتلال الاستئصالي الفاشي.
كانت تصفية السنوار هدفًا استراتيجيًا لكيان تصفية القضية الفلسطينية والعروبة الذي توهم بأن اغتياله وهذا وذاك من قادة فلسطين سيجعله قادرًا على زرع اليأس ودفن أبعاد القضية التاريخية والجغرافية والسياسية والإنسانية، والتعامل مع شعبها كما تتعامل جمعية خيرية مع قلة من الناس ساء حظها في الحياة وتريد فقط ملء بطونها. قال نتنياهو لمسؤول مصري، قبل ٣٤ عامًا، ردًا عليه عندما حدثه عن قضية فلسطين: "لا توجد قضية فلسطينية، سنجعلهم يعيشون كويس".
على مدى عقود، وبخاصة بعد الانتفاضة الثانية، ثم حرب تدمير العراق، أهم كيان عربي كان قادرًا على تشكيل خطر حقيقي على إسرائيل، تمكنت الأخيرة أولًا من إقناع دول غربية أهمها بريطانيا وأمريكا، بأن من يقاوم هو إرهابي، وتفرض عليه عقوبات، رغم أنه لم يقم تحت أي ظرف بالإضرار بأية مصلحة غربية، وثانيًا أن الاقتصاد يسبق السياسة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وكان توني بلير، رئيس وزراء بريطانيا (١٩٩٧-٢٠٠٧)، هو رسولها هو والرئيس الأمريكي الساذج جورج بوش الابن، لتبني هذه الرؤية. كان البدء بمقاطعة واشنطن لياسر عرفات، وإعلان بوش بأنه لن يستقبله في البيت الأبيض ثم تشويه صورته وسيرته واتهام سلطته بالفساد. طرح توني بلير، ما يطرح اليوم بعد عشرين سنة عن إصلاح السلطة الفلسطينية. ونيابة عن إسرائيل، ولكن بلباس آخر، أعلن بلير عام ٢٠٠٥ ضرورة إصلاح السلطة الفلسطينية ومحاربة الفساد فيها وبناء مؤسسات تكون قادرة على تسيير دولاب السلطة عندما يحين وقت إنشاء دولة فلسطينية وقال بلير: "الإصلاح قبل الأرض"، أي قبل التحرير، أي بقاء الاحتلال.
وأثناء حرب تدمير العراق الأمريكية -البريطانية مع شركاء عرب وأجانب، التي كانت حربًا لإضعاف قضية فلسطين، وتهميشها، أعلن جورج بوش الابن، وهو يعي أن ما قاله لن يطبق، بأن الدولة الفلسطينية ستنشأ عام ٢٠٠٥. وعوضًا عن تنفيذ وعده أعلن عن إنشاء اللحنة الرباعية بقيادة بلير، لتمييع القضية، وأوكل إلى بلير قبل ذلك عقد مؤتمر في لندن لـ"إصلاح ودعم السلطة الفلسطينية الاقتصادي"، بغياب عرفات، وبتمثيلٍ قاده محمود عباس، شاركت فيه كوندوليزا رايس، وزيرة خارجية أمريكا، وأمين عام الجامعة العربية عمرو موسى، وقلة قليلة من وزراء الخارجية العرب، والسيد وليم بيرنز، وكيل وزارة الخارجية الأمريكية وقتذاك، ومدير المخابرات المركزية اليوم، الذي عاش لبرهة في مصر وهو يعد لدرجة الدكتوراه عن السد العالي، ويعرف فلسطين أكثر من غيره، ولكن في فيه ماء كبقية النخب الغربية المسلوبة الإرادة. قال بيرنز في لقاء جانبي ضم حوالي خمسة أفراد كنت منهم، بأن كل ما سيعلن عن لقاء لندن يمكن أن يتبخر، وكان يقصد تهميش الأساس، وهو قضية فلسطين، وإنهاء الاحتلال الذي كان في صلب كلمات جانب واحد، هو الجانب العربي.
هذه البيئة رافقها بعد استشهاد عرفات بالسُّم، رفض رسمي فلسطيني للمقاومة، وتعاون أمني مع العدو، وقتل وسجن مقاومين في الضفة المحتلة على أيدٍ فلسطينية، والقطيعة مع حماس. كان ذلك نكسة وتراجعًا لدور حركة فتح، أول حركة مقاومة قبل حركة حماس بـ٢٢ عامًا، وسيادة مفهوم بيروقراطي يراهن على التفاوض كان يعي بالتجربة فقر حصيلته وقلة جدواه.
حلت حماس وعدة فصائل محل فتح كحركات مقاومة، وحكمت حماس غزة عام ٢٠٠٦، وساد انقسام فلسطيني تتحمل مسؤوليته الأطراف الفلسطينية كلها، والعرب الذين لم يبذلوا -باستثناء الجزائر- أي جهد بناء لإنهائه، ونتج عن ذلك قلة اهتمام البعض بالقضية، وأدلجة مواقفهم غير المؤدلجة أصلًا. وحار العرب بين سلطة لا حول لها ولا قوة، وبين مقاومة شابة ترفع عن حق نفس شعار دولة الاغتصاب "من النهر إلى البحر ". وحدث طوفان ٧ أكتوبر الذي كسر حالة اليأس العربية، وحشد تأييدًا شعبيًا عربيًا غير مسبوق لفلسطين، بغض النظر عن أيديولوجية من يقاوم. ودمرت دولة "من النهر إلى البحر" كل غزة، وقتلت وأصابت مائة وخمسين ألف فلسطيني، معظمهم من النساء والأطفال، وقُتل في نفس الوقت ضمير الغرب الديمقراطي وقيمه لانحيازه الكامل لإسرائيل. وهذا مفهوم لأن الغرب مستعد لقبول قتل كل فلسطيني على أن يقبل عودة اليهود إلى أوطانهم الأصلية، لأنه يعي كيف تهيمن على نخبه الصهيونية المنظمة تنظيمًا لا يضاهيه نظام، وانضباط أحزابها التي تمد يديها لها وهي محدودة العدد، مضافًا إلى ذلك سطوة المال والإعلام الصهيونيين اللذين يحييان ويميتان.
استشهد السنوار نيابة عن أمة كاملة راهنت إسرائيل وأمريكا على وفاتها ووفاة أنبل قضية على مر التاريخ. إن طوفان الأقصى لن يذهب سدى.