في البدء أغبط الزميل القدير الأستاذ سامي غالب، في حواره المعتق الذي أعاد نشره أمس في "النداء".. الحوار الذي تم في العام 1998م، تمعنت فيه عدة مرات، ولفتتني عديد آراء سياسية جريئة للشاعر اليمني الأكبر الأستاذ عبدالله البردوني الذي لم يكن شاعرًا عابرًا في تاريخ اليمن، بل كان ضميرًا وطنيًا حيًا يتردد صوته حتى بعد مرور خمسة وعشرين عامًا على رحيله.
في الحوار ومواقفه، يظهر البردوني كنموذج للمثقف الذي يمتلك رؤية أعمق للأحداث الاجتماعية والسياسية، متجاوزًا الشعر ليكون مراقبًا ومحللًا للوضع القائم منذ الأربعينيات حتى تاريخ الحوار.. قرابة نصف قرن كان البردوني ذاكرة، وشاهد أحداث وتحولات عاصفة جرت في اليمن.. هذا الدور الحساس الذي تبناه جعله لا مجرد شاعر يمجد التاريخ أو يناجي الحاضر، بل مفكرًا يستشرف المستقبل بأسئلة لاتزال تلقي بظلالها على واقعنا اليوم!
أحد أبرز الأفكار التي أثارها البردوني في الحوار هو مفهوم الماضي الذي لا ينفصل عن الحاضر ولا عن المستقبل. فالقول بأن "الحركة الآن ماضوية" يشير إلى أن البنية العميقة للمجتمع اليمني لاتزال متجذرة في صراعات الماضي، سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو عشائرية. هذا الفهم يعكس وعي البردوني بالتركيبة التاريخية المعقدة لليمن، حيث إن الماضي لم يكن مجرد ذاكرة تمضي، بل قوة محركة تعيد تشكيل الحاضر، وتحدد مسار المستقبل. في هذا السياق، يمكن القول إن البردوني كان يدرك أن تجاوز هذا الماضي يتطلب معالجة جذرية لأسس الصراعات المتوارثة، وليس فقط الاكتفاء بحلول سياسية سطحية.
أما العلاقة بين المثقف والسلطة فقد شكلت محورًا هامًا في أفكار البردوني، إذ انتقد بشكل لاذع العلاقة التي تربط بعض المثقفين بالأنظمة الحاكمة، واصفًا إياهم بـ"مثقفي السلطة" الذين ينشغلون بتأمين مصالحهم الشخصية على حساب مصلحة الشعب. في إشارة أوردها الزميل سامي غالب عن أن البردوني تلقى اتصالات "لوامة" من رأس في السلطة أنه انزعج برد البردوني بشأن قصيدة توابيت الهزيع الثالث، والتي تؤرخ اغتيال نظام علي عبدالله صالح للقيادي المؤسس في الجبهة الوطنية الديمقراطية التي تصادمت مع نظام صالح مدعومة من الشطر الجنوبي من اليمن، ما أسفر عن اغتيال آثم للقائد عبدالسلام الدميني وشقيقيه، بعد ما كانت صنعاء آنذاك تعهدت بالتحاور معه، وإيقاف نشاطات الجبهة المعارضة للنظام.. لم يتجرأ أحد قبل البردوني أن يقولها بالفم المليان إن القاتل مازال يستمر في الغدر والقتل. هذه الانتقادات لا تعني أن البردوني كان في مواجهة مستمرة مع السلطة، بل كان يسعى إلى إقامة علاقة بناءة تقوم على النقد البناء. في حواره يشير إلى أن العلاقة التي تجمعه بالسلطة "ودية ساخنة"، إذ يؤمن بأن دور المثقف هو مساعدة الحاكم على أن يكون أفضل مما كان، وأن يتجنب أخطاءه من خلال توجيه النقد البناء.
من خلال هذا الفهم، كان البردوني يطمح إلى أن يكون المثقف أداة للتغيير الإيجابي، لا مجرد تابع للسلطة. وهو ما يتضح في رؤيته لدور المثقف الحقيقي، حيث يجب أن يتصدى لمواطن الخلل في النظام السياسي، ويسهم في تصحيح مساراته، بخاصة في مجتمعات تعاني من ترسبات الماضي وتحكم العشائرية والسلطوية. كان يؤمن أن المثقف قادر على إحداث الفرق، لكن بشرط أن يتحلى بالجرأة والنزاهة، ولا يخضع لإغراءات السلطة أو المال.
بدا أن البردوني كان دائمًا مدركًا أن اليمن يعاني من إرث ثقيل من الصراعات العشائرية التي تعوق بناء دولة مدنية حديثة. ففي الوقت الذي يعترف فيه بالشعب اليمني كأمة واحدة، لم تُبنَ الدولة على أساس مدني راسخ. هذه المعضلة كانت واضحة في تفكير البردوني، الذي رأى أن زوال سلطة الشيخ لا يأتي إلا عندما تفقد مشيخته دعم الحكومة المركزية. هنا يظهر البردوني كمثقف يدعو إلى تجاوز الولاءات القبلية، وبناء دولة تقوم على أسس وطنية ومدنية حديثة، حيث تكون السلطة مبنية على الكفاءة والعدالة لا على قوة القبيلة أو الولاءات الشخصية.
من خلال هذا المنظور، كان البردوني يعتقد أن السلطة الحقيقية للدولة تكمن في قدرتها على حماية الضعفاء من الأقوياء، والفقير من الغني، والمواطن العادي من المتسلط. وهو ما يتناقض مع النظام القبلي التقليدي الذي يعزز من سلطة الأقوياء على حساب المستضعفين.
كان البردوني صوت المثقف اليمني بين السلطة والمجتمع، يعي جيدًا أن الحكومات التي لا تستمع إلى شكوى شعوبها محكوم عليها بالفشل. في حديثه عن دور الاستخبارات في إبلاغ الدولة بتذمر الناس، يظهر البردوني كمناضل من أجل تحسين علاقة السلطة بالشعب. فالحكومة التي تتجاهل أسباب الشكوى ستخلق المزيد من الأحقاد، وهذه الأحقاد ستتراكم إلى أن تصبح قوة قادرة على إسقاط أي نظام مهما بدا قويًا.
هذا الفهم يعكس وعي البردوني بأن الحكومات ليست معصومة عن الخطأ، وأن المثقف له دور محوري في لفت الانتباه إلى تلك الأخطاء وتوجيه النقد البناء للحاكم. ولكنه في الوقت نفسه يشدد على أن القمع ليس حلًا للشكوى الشعبية، وأن الحل الحقيقي يكمن في استجابة السلطة لمطالب الشعب ومعالجة أسباب تذمره. من هنا يمكن القول إن البردوني كان يسعى إلى ترسيخ مفهوم العدالة الاجتماعية، حيث تكون الحكومة في خدمة الشعب وليس العكس، استغلاله.
كان البردوني يرى في العلاقات اليمنية الخارجية موضوعًا حساسًا، بخاصة في ظل التدخلات الإقليمية والدولية في شؤون اليمن. موقفه من السعودية، على سبيل المثال، كان موقفًا نقديًا متوازنًا. فقد رأى أن السعودية تسعى إلى تحقيق مصالحها في اليمن، وهو ما يتطلب من اليمنيين أن يكونوا يقظين وحذرين تجاه تلك الطموحات. هذا الموقف يعكس وعي البردوني بأن اليمن لا يجب أن يكون أداة في يد أية قوة خارجية، بل يجب أن يحافظ على استقلاله وسيادته.
لكن، في الوقت نفسه، كان البردوني يدرك أن العداء المطلق ليس هو الحل، بل يجب أن تقوم العلاقات الخارجية على أساس المصالح المشتركة التي تخدم مصلحة الشعب اليمني أولًا وقبل كل شيء. وهنا يظهر البردوني كمفكر سياسي ناضج، يسعى إلى إيجاد توازن بين حماية مصالح اليمن وبين عدم الانجرار وراء شعارات العداء غير المدروس.
بعد مرور خمسة وعشرين عامًا على رحيله، لاتزال أفكار عبدالله البردوني حاضرة بقوة في الوعي الوطني اليمني. فهو لم يكن مجرد شاعر ينشد كلمات عابرة، بل كان ضميرًا حيًا يعبر عن تطلعات الشعب اليمني في الحرية والعدالة والمساواة. نقده للسلطة لم يكن مجرد معارضة، بل كان سعيًا صادقًا نحو تحسين الواقع وتجاوز الأخطاء. كما أن رؤيته للمثقف ودوره في المجتمع تجعله نموذجًا للمثقف الذي لا يتنازل عن مبادئه، ولا ينحني أمام إغراءات السلطة.
إن استعادة أفكار البردوني اليوم ليست مجرد استذكار لتاريخه، بل هي دعوة لاستمرار النضال من أجل بناء دولة يمنية حديثة تقوم على العدالة، وتحقق طموحات الشعب اليمني في الاستقلال والكرامة. فالبردوني سيظل رمزًا للمثقف الذي حمل هموم أمته على عاتقه، وسعى بجرأة نحو تحقيق التغيير.
إنه شاعر اليمن الأكبر وصاحب البصيرة الثاقبة، ظل يشغل الساحة الثقافية والسياسية برؤاه واستشرافاته منذ عقود، وها نحن بعد خمسة وعشرين عامًا على رحيله نستعيد نبوءاته التي تبدو كأنها كانت تجليات عميقة لما حدث ويحدث اليوم. لقد كان البردوني صوتًا يقظًا، يقرأ في الواقع اليمني والعربي خطوطًا لم تكن واضحة للكثيرين في عصره، لكنه كان يرى أبعد من زمانه ومكانه، ويحذر من أزمات لم نكن ندرك مدى عمقها حتى بعد عقود من وفاته.
من أبرز ما تميز به عبدالله البردوني هو نقده الجريء للأنظمة الحاكمة والفساد المستشري في الوطن العربي، وبخاصة في اليمن. قال: "كأن الماضي جاء ليحكمنا على أنقاض المستقبل". هذه الجملة تلخص أحد أعمدة رؤيته النقدية، إذ كان يرى أن الأنظمة العربية، بما فيها النظام اليمني، تستند إلى الماضي كوسيلة للتحكم في الحاضر والمستقبل، مما يمنع الشعوب من التقدم أو حتى الحلم بالتغيير.
تلك الرؤية لم تكن مجرد نقد للحظة زمنية عاشها البردوني، بل نبوءة تحققت، حيث نرى الآن كيف أن الماضي بكل آثاره وصراعاته مازال يهيمن على واقعنا، سواء من خلال استعادة النزاعات الطائفية أو الانقسامات القبلية والسياسية. وكأننا نعيش في حلقة مفرغة، نكرر فيها أخطاء الماضي دون أن نتعلم منها.
لقد عبر البردوني في العديد من أعماله ومقابلاته عن تخوفاته من مستقبل اليمن في ظل الانقسامات والصراعات الداخلية. هو من قال: "الوحدة اليمنية ستبقى حلمًا ما لم تجد من يحميها". وبعد سنوات من وفاته، تبدو هذه النبوءة أكثر وضوحًا في ظل الصراع القائم في اليمن، حيث تحولت الوحدة إلى قضية مفتوحة على احتمالات متعددة، بين من يحلمون بإعادة ترسيخها، ومن يسعون إلى تفتيت البلاد إلى دويلات متناحرة.
البردوني لم يكن شاعرًا يتحدث من برج عاجي؛ كان يدرك التحديات الحقيقية التي تواجه الشعب اليمني، ويعلم أن الحرب لن تجلب سوى المزيد من الدمار والفرقة. وفي ظل الأوضاع الراهنة، يبدو صدى كلماته كأنه ينبعث من الماضي ليذكرنا بمخاطر التهاون في مواجهة هذه الأزمات.
من القضايا التي تناولها البردوني بشدة في شعره ومقالاته، هي قضية الفساد والاستبداد الذي يعصف بالدول العربية. قال في أحد الحوارات: "الفساد ليس فقط في الجيوب، بل في القلوب". هذه العبارة تعكس فهمه العميق لأسباب انحدار المجتمعات، حيث كان يرى أن الفساد يبدأ من النفوس، وأن تغيير الواقع لا يمكن أن يتم ما لم يبدأ التغيير من الداخل.
بعد مرور عقود على تلك الكلمات، نجد أن الفساد مازال يستشري في مؤسسات الحكم والمجتمع على حد سواء. وكأن البردوني كان يحذرنا من هذا السرطان الذي ينخر في جسد الأمة، لكنه كان يعرف في الوقت نفسه أن الشعب وحده هو القادر على التصدي لهذا الفساد إذا ما تحلى بالشجاعة والوعي.
لم يكن البردوني فقط ناقدًا للواقع السياسي، بل كان يدرك دور المثقف في مواجهة الظلم والتصدي للاستبداد. قال في إحدى مقابلاته: "المثقف لا يجب أن يكون عينًا للسلطة، بل عين الشعب على السلطة". كانت هذه المقولة بمثابة دعوة لكل المثقفين في اليمن والعالم العربي، للوقوف مع شعوبهم ضد الظلم، بدلًا من التواطؤ مع الأنظمة.
ومع ذلك، نجد اليوم العديد من المثقفين قد انحازوا إلى صفوف السلطة، تاركين شعوبهم في مواجهة مصيرهم. في حين أن البردوني كان يرى أن المثقف يجب أن يكون أول من يقف في وجه الطغيان، لا من يتملق له.
رغم كل التشاؤم الذي قد يتبادر إلى الذهن عند قراءة تحليلات البردوني، إلا أن هناك جانبًا من الأمل في رؤيته للمستقبل. ففي إحدى مقابلاته قال: "إنما المستقبل هو بناء أيدينا، إن أردنا تغييرًا حقيقيًا". كان البردوني يؤمن بأن الشعوب قادرة على التغيير، وأن المستقبل لا ينتظر أحدًا، بل يجب أن نصنعه نحن بأنفسنا.
والآن، وبعد خمسة وعشرين عامًا على رحيله، نجد أن كلماته لاتزال تحاكي واقعنا بكل تفاصيله. المستقبل الذي تحدث عنه البردوني لم يتحقق بعد، لكنه مازال ممكنًا إذا ما استوعبنا دروس الماضي، وتجاوزنا أخطاء الحاضر.
لذلك كله، نجد أن عبدالله البردوني لم يكن مجرد شاعر يلهم الناس بكلماته، بل كان مفكرًا سبق عصره، قرأ في الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي ما لم يستطع كثيرون استيعابه في زمانه. ورغم مرور خمسة وعشرين عامًا على رحيله، تظل نبوءاته حاضرة في أذهاننا، تذكرنا بمسؤوليتنا تجاه المستقبل. وكأن البردوني مازال بيننا، صوته لا ينقطع، يحثنا على مواجهة الفساد والظلم، وعلى السعي نحو تغيير حقيقي يبني لنا مستقبلًا يليق بطموحاتنا كشعب يمني واحد مهما حاولوا التفرقة، والحكاية باختصار أننا مجرد يمنيين فقراء يتم تعنيفهم ضد بعضهم البعض، ولا تستفيد من ذلك سوى السلطة الماكرة واللئيمة.