إلى الأستاذة: حليمة الدميني، وكل المعلمات والمعلمين بمدرسة أسماء الثانوية بتعز.
**
"ليست الصورة نفسها حية، بأي معنى (أنا لا أعتقد في الصور الحية)، ولكنها تحييني، هذا ما تفعله في كل مغامرة"، رولان بارت، الغرفة المضيئة، ص23.
**
يوم الأحد 30 يوليو 2024، لفتتني صورة داخل ملفي في الكمبيوتر، صورة تجمعني بصديقات الطفولة والمدرسة، كانت غير واضحة، وبكاميرا كوداك، أيام التحميض في استديوهات تعز.
كنا سبع صديقات، في الصورة الملتقطة عام 1982، تقريبًا، ونحن على سطح مدرسة أسماء الثانوية بتعز، كانت وجوهنا الفرحة مشدوهة نحو الكاميرا، بمناديلنا البيضاء على رؤوسنا، المعقودة إلى الخلف، والزي الكحلي المدرسي بأكمام بيضاء، وعلى خلفيتنا يظهر جبل "ثعبات" الشاهق.
يومها كنا من أوائل الطالبات الملتحقات بالمدرسة الجديدة التي بنتها دولة الكويت التي ندين لها بكل جميل: النهضة التعليمية والثقافية والصحية بصورة خاصة، وبناء المدارس، وهي لا تعد ولا تحصى في كل ربوع اليمن، هذه هي الكويت في كل آن مع الشعب اليمني بلا استثناء.
في يوم اكتشافي للصورة، غمرتني الفرحة البالغة، "قشننت" بها من بين الآلاف الصور في اللابتوب، أرسلتها لصديقة الطفولة والمدرسة نجيبة، وما بين انسكاب الأشجان، والشهقات، وروح الذكريات والتفاصيل الصغيرة والكبيرة، استعادت الروح المنسية طراوتها، في ذلك اليوم الاستثنائي.
وقامت نجيبة بإرسال الصورة لصديقة الدراسة أفراح، ومنها إلى انتصار وفائزة، وإلهام، وأروى، والبقية لم تكن تعرف أرقامهن، والتم شمل صديقات الصورة في لقاء جمعهن -إلا أنا- وانداحت ذكريات المدرسة والدراسة، وتفاصيل كثيرة، وكنت كلما أسمع أصواتهن، تتداخل الذكريات وينهمر سيلها، شجن يقشعر له البدن، وتنسكب الدموع والتنهيدات.
تذكري يا صاحبتي!
غدونا كل صباح ومساء نلتقي على الذكريات، زادنا اليومي، فكل واحدة أعادت اكتشاف نفسها من خلال الصورة، وانبجست أشجان حميمية لصور غير مرئية كانت مطمورة في الأعماق، ومع كل شجن نجر تنهيدة نذيلها: يااا االله.
صديقات الطفولة والمدرسة، كان لكل واحدة منهن ألف حكاية وحكاية، بعض من كن في الصورة تشردن ما بين إب وصنعاء، والحوبان، بعضهن عُدن إلى تعز، أخريات عالقات، ينتظرن الفرج، خصوصًا من كن يعشن في الجحملية، وما أدراك ما فعلته الحرب الأخيرة بالجحملية، التي نُكبت وسكانها عن بكرة أبيهم، وتدمر كل شيء، وكأن من صنع هذا الخراب ليسوا بشرًا، بل كائنات زومبية استقدمت من عالم آخر، سحيق لا يشبع من الدم والخراب.
مع كل تسجيل، مع مجموعة الصورة الأولى، كلنا ندعو ونبتهل بصوت واحد إلى الله أن يرفع الغمة عن البلاد والعباد، وتمنيات أن نجتمع مثلما كنا في تلك الأيام، ففي كل مرة كنا نجتمع في بيت صديقة "عزومة" على البطاطا المفورة والسحاوق والزلابية والباجية، والكيك، والبيبسي والشاي، أما التنكيت فتتعالى ضحكاتنا حتى تتشغرر عيوننا بالدموع، كانت قلعة القاهرة وجبل ثعبات وصالة، ومثلها الشماسي وحوش الأشراف والجحملية والمدينة كلها تضحك معنا، أعتقد أن دموعهم كانت تتشغرر مثلنا... الخ.
وأنا أكتب المقالة صباحًا من ألمانيا، أسمع رنين الضحكات وتلاويح البهجة، نعم تتمرأ لي الآن تعبر وترجع، ولا تنتهي، خصوصًا وأنا أتأمل التواصل البصري من نوع آخر.
وصل آخر:
بعد أيام، وصلتنا صورة أخرى قربت بيننا أكثر، اتصال حميمي آخر، وهو ما شاهدناه في قناة الجمهورية -شكرًا لها- في بداية سبتمبر، حيث استعرض التقرير حالة مدرسة أسماء بتعز (مدرستنا)، وما فعلته بها الحرب وأهوالها.
نعم، لقد مر الغزاة من هنا، بدت مدرستنا عارية إلا من الخراب والدمار، وبالمثل هرمت ونكلت بأحلامنا وذكرياتنا الجميلة.
نعم، مرت مليشيات الفجيعة، كل ينصع من جهته، "جهنم ما ترد ميت"، مهما ادعوا الوطنية والحق، والله أكبر، والمقاومة، والعدوان، والهويات الدموية التي لا تشبع... الخ. أجدني أقتبس مقولة فان جوخ، معبرًا عن أن "الفن يواسي الذين كسرتهم الحياة"، وفننا كان: الصورة لطالبات مدرسة أسماء في بداية الثمانينيات من القرن العشرين، إنهن الجدات المشتتات داخل وخارج اليمن في الألفية الثالثة من القرن العشرين، تحديدًا من يوم انبعاث الصورة في يوليو 2024.
في تقرير قناة الجمهورية، كل بكى وتحسر بطريقته، وانسكبت الذكريات أكثر وأكثر، بالدمع والآهات والوجع والغبن والتشرد والمنافي والقسوة التي وحدتنا.
ذكريات مضاعفة:
وتواصل الشريط: تذكري، وتذكري، لا خلينا فصل ولا ساحة ولا كرة طائرة، ولا ملاحقة، ولا مَصَر، ولا مقرمة، ولا زنة ولا جزمة، وأساور "شوالية"، ولا تفاصيل الطابور والهروب من الحصص، والمدرسات اللواتي كن ينتقدننا، أو من يتغاضين، وتعهداتنا آخر مرة والله يا أستاذ/ة، كنت قد كتبت في صحيفة "النداء"، في 2008: "رد الاعتبار لحصة الرياضة في مدارس البنات"، وإهداءها لصديقة العمر نجيبة، إلى جانب مقالات أخرى في صحيفة "الجمهورية الثقافية".
جروب صداقة الزمن الجميل:
من هنا كانت فكرة إنشاء جروب خاص يجمعنا من قبل أفراح وفائزة ونجيبة، وتولت إنجاز إنشاء الجروب أفراح وابنتها، في 25 سبتمبر 2024، وأشرفت عليه أفراح الأم بعد أن تعلمت، ثم انضمت لها صديقتنا إلهام.
وإلى جانب صديقات الصورة السبع، انضمت إلى الجروب، في البداية، طالبات ثالث ثانوي أدبي، وفي وقت لاحق طالبات الثانوية العلمي، وكبر الجروب، وأصبحنا كل يوم نعد كم صار عددنا، تصدقوا بالله، قد أصبحنا أكثر من 36 عضوة في جروب "صداقة الزمن الجميل".
كل واحدة أخرجت ما بحوزتها من صور تلك الأيام، وانسكب مطر الذكريات الجارف مع كل صورة، ومع كل اسم جديد يلتحق بالجروب، ولكن بقيت مشكلة الأسماء، فبعضهن، يعرفن، بأم أحد أولادهن/ بناتهن، أخريات باستهلالات دينية... الخ. كانت التسجيلات على أشدها، كلنا نهدر كأننا في مفرج واحد، نستهل شهقاتنا، بـ: يا االله، ما أجمل الصورة، "أني ليش مهلنيش بالصورة"، وأنتعش للذاكرة المهلهلة لتستعيد بعض ألقها.
غدونا نستحضر بعض الشخصيات، "باقي فلانة، أينها، وأين أيامها، تذكرين، لما فعلت، لما ردت على الأستاذ.. تذكرين يوم الزلزال، وكيف فُجعنا وارتطمنا ببعضنا البعض، وو... الخ.
وتذكرنا جميعنا صديقاتنا ومدرساتنا اللواتي رحلن في أوقات مختلفة، بعضهن سردن الموتى من الأولاد، والآباء والأمهات، معظمنا صرن يتيمات فقدانات متسلسلة تنبجس بين تسجيل وآخر. لا نملك إلا الترحم والآهات.
النبش لذاكرة ممتلئة:
اليوم، جميعنا نصحو وننام على صور ودفاتر الذكريات أبو ورود وقلوب، و"الذكرى جرس يدق في عالم النسيان"، التي تزين دفاترنا الحالمة، ناهيك عن مئات التسجيلات في كل صبح ومساء. تسجيلات لا نستطيع أن نلاحقها.
الكل مجمع بأن هذه اللحظة هي أجمل شيء صار لهن في حياتهن بعد 40 سنة من دراسة الثانوية، هذا التجمع الافتراضي، بمفعول الصورة، والذي سيدشن، بلقاءات على أرض الواقع، في صنعاء وتعز، مازالت الخيارات تعتمل بالجروب.
أما أنا ومن يعشن في الخارج، فسنملك حق الحلم واللقاء من جديد معهن جميعًا، بالتأكيد سيكون زادنا الفرح والأحضان مع البطاط المفور والبسباس والزلابية، وشاهي حليب بالهيل يا أفراح، وكيكة وذمول، يا إلهام، ومعكن فائزة، وخديجة، وانتصار، وجميلة، ونجاة، واسم "سأظل أشدو لمقلتيك"، وشادية، وأميرة، و"لا إله إلا الله"، و"أستغفر الله"، وأم محمد وهبة، ومروان... الخ، جميعنا لا نشبع من الضحكات وهدرة "قَلّك بَلّك" التي لا تمل.
مختم:
شكرًا، لكل صديقات مدرسة أسماء، وجروب الزمن الجميل، أحلى وأمتع شيء حصل في حياتنا اليوم في 2024.