كثيرةٌ هي أشياء محمد عمر بَحَّاح! وروايته «أشيائي» -على أهميتها- لا تضم كل أشيائه. فأشياؤه كاثرة ولا يحصرها كتاب أو رواية أو عشرات القصص، وحياته -مد الله في عمره- سفر أو أسفار من الحيوية والنشاط والإبداع والعطاء.
ميزة رواية «أشيائي» احتواؤها على الجوانب الأهم من سيرته وسيرة أسرته المرتبطة بالتأسيس للعلم والتعليم والعمل، وسيرة الديس وأهلها، وتعم حضرموت وعدن.
كثيرة هي السير الذاتية التي يكتبها أدباء وساسة ومناضلون، ولكن "أشيائي" سرد إبداعي؛ استطاع الصحفي الموهوب والكبير أن يرتقي به إلى ذرى العمل الروائي.
و"أشيائي" ليست أشياء بَحَّاح وحده؛ فهي أشياء أسرته -كل أفراد أسرته الممتدة- ورفاق الطفولة واللعب، وزملاء الدراسة والشقاوة أيضًا.
أشياء الحضارم في الصومال والقرن الإفريقي وجنوب شرق آسيا والكويت، وأشياء التأسيس للاستقلال ودولته، وصحافة ثورة أكتوبر، والتجربة الثورية في الجنوب، والعمل التجاري وما لحق به؛ وكلها أشياء كرؤيته وإبداعاته، وأشياء مدن أخرى زارها وعمل بها.
تقع الرواية في 349 صفحة بالقطع المتوسط، وهي صادرة عن «مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر».
يمتلك بَحَّاح موهبةً كبيرة، وقلمًا رشيقًا، وعمقًا معرفيًّا، وخبرةً بالحياة والناس والعصر؛ تمكنه من أن يصنع من العادي والبسيط عملًا فنيًّا رائعًا ورفيعًا.
والرواية مُهداة إلى "عبير حياتي، وزهور عمري: أسيلة، وسالي"، ومقدمة بقلم الأستاذ ناصر محفوظ بَحَّاح.
تغوص المقدمة في أغوار ذاكرة عميقة حقًا وصدقًا، وتشير إلى ولع الراوي الرائي بالأمكنة والأزمنة والناس؛ وهو وصف جِدُّ دقيق للعمل المدهش.
بَحَّاح ماهر في وصف التفاصيل وتفاصيل التفاصيل؛ وحتى الأمكنة البعيدة التي زارها، ولو لفترات قصيرة؛ يأتي على وصف شوارعها، والأماكن التي زارها، والناس التي التقاها.
ذاكرة حية، وضمير يقظ، وإحساس فائق. تتمازج الوقائع برؤاه، ويستقرئ الوقائع والحياة بحبٍّ واندهاش.
من سيقرأ سرد الراوي الرائي بعد أعوام وأعوام، سيعرف بدقة حياة وسيرة وخلق محمد عمر بَحَّاح، وتقاليد أسرته الممتدة، وبلاده حضرموت وأهلها المسكونين بالهجرة وحب العمل والنجاح والحرص على امتلاك المعرفة وعشق الحياة.
المقدمة دراسة عميقة وعلمية ودقيقة، وكاتبها خبير لا يقرأ النص فحسب، وإنما هو ضليع أيضًا في قراءة مخزون صاحب النص.
المقدمة تزود القارئ بالكشف عن جمالية النص وإبراز خباياه وكنوزه. وجليٌّ أنَّ مخزون ذاكرة السارد لحكايا جدته «أبوللو» التي أحبها، وتعرفه على أصدقاء أخيه محفوظ (المكتبة)، واندغامه في مجتمعه وعصره. قد أكسبهُ مهارةً قَلَّ نظيرها.
الراوي متعدد المواهب. فهو كاتب صحفي كبير، وناقد اجتماعي رفيع؛ ومن ثَمَّ اتخذت رواية «أشيائي» عناوين عدة؛ وكأنَّ كل عنوان قصة قصيرة، ولكن النسق البنائي للسيرة يجعلها بناءً روائيًّا زاكيًا يندغم الخاص فيها بالعام.
سيرة أبيه -أشجع رجل في العالم- تحتل مكانةً كبيرةً في العناوين الأولى، وتتبوأ «الدِّيْس» (هبة الصَّيْقْ) المرتبة الثانية؛ لكأنها أمه. وحقًّا، فالمدينة أمنا جميعًا، بل هي أمنا وأم أمنا.
وهو -كابن بار- يرى "أن اسمًا واحدًا لأمه لا يكفي"، ويميل إلى تسمية الديس الشرقية رغم حداثتها، ويدون النحت الذي ابتكره المذيع ناصر بَحَّاح، ابن المنطقة؛ أو بالأصح التركيب المزجي: «الديسشرقاوين».
يدرس السارد كل تفاصيل حياته الممتدة، بما في ذلك عادات إخوته في النوم؛ فهو سارد حافظ ومتقن لا يغادر كبيرةً ولا صغيرةً إلا أتى عليها؛ وهو طفل لا يريد أن يكبر.
وأقسم إنه وصف صادق للراوي محمد عمر؛ فهذه صفات وخصائص الطفولة البريئة من أمراض الكراهية والضغينة واللؤم مائزة.
يستطيع من يعاشره أو من يقرأ سيرته، أن يعرف يقينًا أن صاحب «أشيائي» طفلٌ لم يكبر.
حبه لأمه، ولأمه الديس، يفوق التصور؛ فهو يصف كل مظاهر الحياة فيها، ويحتفي بتفاصيل التفاصيل، وتتحول عدن إلى شيء من أشيائه الحميمة؛ أو يكون هو شيئًا من أشيائها -سيان؛ فهو محب حد العشق للزمان والمكان والناس، كإشارة صاحب المقدمة.
يصف تفاصيل حياة والده العملية في الدكان الذي استولت عليه دولة الاستقلال، يوم استولت على سوق التجارة، بما في ذلك تجارة التجزئة. يضيف: "وصارت الدولة هي الشحاري (الـ ش ح ا ر ي!).
النقد الصادق والأمين الممزوج بالمعاناة من الإجراءات شديدة القسوة للتأميمات الجزافية، يتواصل في السرد: "الحكومة بعد أن استولت على كل شيء، كَفَّنت اللحم، وجَمَّدت السمك، وصار الحصول على القليل من الخضروات يتطلب الوقوف في طوابير طويلة من صباحية ربنا. وطبعًا لم يعجب أبي كل ذلك؛ بينه وبين نفسه يقول: ماذا يعرف هؤلاء المتحذلقون عن التجارة والبيع والشراء وأذواق الناس؟!
في سردية «أشيائي» إشادة كبيرة بإنجازات ثورة 14 أكتوبر، وبالإنجازات التي تحققت في مختلف مجالات الحياة، ولكنه إلى جانب ذلك ينقد الجوانب السلبية والقمع. فكلُّ الإعدامات الجائرة، خصوصًا للصحفيين وأصحاب الرأي المختلف، راعب وصادم وصادق.
لجدته مريم محفوظ قرنج، حضور. يسرد «التغربية القرنجية» ذات زمن. وللشعور حضور أيضًا في أشياء بَحَّاح.
"خلَّدَ الملك الضليل مأساة كندة بشعره وموته الأسطوري، وتحول الموت إلى نشيد. هنا يصبح الموت أنشودةً للحياة. لا شيءَ أصعب على القلب من أن يترك المرء أرضه، ويلاحق مُلكًا مُضاعًا؛ فلا يسمع سوى صوت رنين الريح، وخُطَى الحنين! وليس ما يتركه التراب والبيوت والشوارع، بل الأرواح التي ضلت طريقها، وسنوات ظلت بحثًا عن وطن".
ويسرد سيرة أمه برقة (سيدة الصبر)، وإخوانه: فرج، ومحفوظ، وصالح، وأخته آمنة. ويقرأ حسب ونسب برقة شعرًا ونثرًا، وتأخذ عدن المدينة السردية الأوسع والأروع في الرواية. ولا ينسى جدته «أبوللو»، وحكاياها الليلية التي غرست فيه، وأنبتت ثمرة وفاكهة.
إبداعٌ زاكٍ وبديع!
ويباهي، ومعه كل الحق، بجده سالم الذي جعل من الظلام حكاية، وخاله سالم. ويسرد -بحب عميق- سيرة أفراد أسرته الممتدة، وإخوته فردًا فردًا، ويفرد عنوانًا لعبير ابنته المُهْدَى إليها كل الأشياء. ويهدي "مثل عيون العصافير على طرف النهر" لأمه.
وللمرأة حضور قوي في أشياء الراوي؛ ومنهنَّ أم خالد. ويسرد مأثرة حاج بَحَّاح، رائد التعليم في الديس الشرقية الذي قام بزيارته السلطان عمر بن عوض القعيطي.
ويسرد سيرة سعيد عبدالله بَحَّاح، رائد تعليم المرأة في الديس؛ والذي يعود إليه الفضل في العمل على إلحاق المرأة بسوق العمل.
وأطراف ما تضمنه السرد تأبين القط في مقالين: «وداعًا ابني الذي لم أنجبه!»، و«السماح بالرحيل». والمقالان لعبير محمد بَحَّاح.
ويروي عودته إلى عدن، ويعتبرها عودة إلى الروح.