الشهيد إسماعيل الكبسي من السبتمبريين المدنيين، وأفضل مناسبة للكتابة عنه هي في ذكرى ثورته الخالدة. زاملته في المدرسة الأحمدية بتعز، وفي القاهرة، وهو يدرس الحقوق في جامعتها. كان لإسماعيل في تعز رفيق حزبي لم يفارقه، هو محمد حسين مرغم (بني حشيش)، ولكن الدراسة الجامعية فرقت بينهما، حيث درس المرحوم مرغم في العراق، والشهيد الكبسي في مصر، ووفاء للكبسي كان مرغم يقضي إجازته الدراسية كل عام في القاهرة. كان الاثنان من أوائل الطلبة اللذين انضموا إلى حركة القوميين العرب بتعز، قبل ثورة سبتمبر، وربما كانا الطالبين الوحيدين في اليمن اللذين كان لديهما علم مسبق بموعد قيامها كما سيأتي.
إضراب طلاب الأحمدية
تزعم الكاريزماتي الشاب الدائم الابتسامة والتفاؤل إسماعيل، إضراب طلاب القسم الداخلي في المدرسة الأحمدية، في أغسطس ١٩٦٢، تضامنًا مع طلاب صنعاء الذين تحول استياؤهم من إدارة المدرسة المتوسطة إلى مظاهرة سياسية ضد النظام الملكي.
تبين لاحقًا أن إضراب طلاب الأحمدية كان دافعه سياسيًا أيضًا، وكانت حركة القوميين العرب هي المحرك الخفي له. استمر الإضراب لأكثر من أسبوع، وتم حصارنا داخل المدرسة بعسكر أحاطوا بها من كل جهاتها، ومُنع عنا الماء، وأغلق مطبخ القسم الداخلي، وقطعت عنا الكهرباء.
كان ذلك أول إضراب طلابي في اليمن، وحتى الآن لم يتتبع أحد تأثيراته على نظام الإمام أو صداه في الداخل وفي الخارج، أو ماذا كتبت عنه السفارات المعتمدة في تعز، كالأمريكية والبريطانية والسوفيتية والصينية والألمانية.
حاول الإمام أحمد أن يخرجنا من المدرسة بالحسنى، بإرساله نائبه في تعز السيد حمود الوشلي، لإقناعنا بإنهاء الإضراب، وكان الكبسي هو المتحدث نيابة عن الطلبة الرافضين لإنهاء الإضراب ما لم يفرج عن طلبة صنعاء الذين أودعوا السجن. ولأن الإضراب لم يكن متوقعًا من طلبة غير مسيسين، فقد قال النائب الوشلي بأن هناك "أصابع أجنبية" تحركنا، ولكن الكبسي رفض الاتهام. في الزيارة الثانية للنائب الوشلي، بعد فشله بإقناعنا بفض الإضراب، قال إن الإمام يأمرنا بترك المدرسة.
اشترط الكبسي الاستجابة لأمر الإمام بسماعه من القاضي عبدالرحمن الإرياني، الأقل منصبًا من الوشلي، نيابة عن الإمام. أتى القاضي الإرياني المعروف بمعارضته للنظام الملكي منذ أربعينيات القرن الماضي، وتحدث إلينا، وختم حديثه بعبارة محددة هي: "يا عيالي قال الإمام تخرجوا من مدرسته".
خرجنا في اليوم التالي سيرًا على الأقدام إلى المقام الشريف في العُرضي، يتصدرنا الشهيد يحيى الخُراشي. ومن هناك توجهنا إلى ضربة علي، ثم افترقنا كل في اتجاه مجهول. ذهب الطلاب المسيسون إلى عدن كالكبسي ومرغم، أما نظراؤهم في السن، فقد عادوا في الغالب إلى مساقط رؤوسهم. طلاب النادرة وفر لهم العزّي الكهالي (المقدم محمد أحمد الكهالي) السكن والقدر المستطاع من الضيافة، حتى أعيد فتح المدرسة والقسم الداخلي.
كانت المدرسة والقسم في مبنى واحد، الدراسة في الدور الأول، والقسم في الدور الثاني، والإدارة في واجهة المدرسة فوق بوابة كبيرة، وبجانبها مكتبة المدرسة المنظمة تنظيمًا جيدًا، وكان يديرها شمهان. أما المطبخ مع صالة كبيرة لتناول قروانات وجبة الغداء، فكانا مستقلين، وبجانبهما ساحة كبيرة للرياضة.
كان المبنى أحد معالم تعز التاريخية، وقد ارتكبت بحق تعز وتاريخها والتعليم جريمة لا تغتفر عندما دُمّرت المدرسة عمدًا بعد الثورة التي كانت متينة البناء وجميلة وصالحة لأداء وظيفتها التعليمية. ولأول مرة في التاريخ قامت ثورة من أهدافها نشر التعليم بتدمير مؤسسة تعليمية.
دور تجار تعز في ثبات صمود الطلاب
لم يكن خافيًا على الإمام أحمد كسر تجار تعز الحصار المائي والغذائي والكهربائي، وتضامنهم مع الطلاب المضربين بتوفيرهم كل ما كانوا يحتاجونه من ماء يحمله السقاؤون بصفائح على أكتافهم عندما يخيم الظلام، ومن المعلبات المتنوعة والروتي والبسكويتات والشموع التي تكفي للإضاءة ليلًا (كتبت عن الإضراب في صحيفة "٢٦ سبتمبر" بمناسبة اليوبيل الفضي لثورة سبتمبر، في ٢٦ سبتمبر ١٩٨٧، وقد أعجبت السلطة بالمقال ووضعته في لوحة مع مقال للبردوني في المتحف العسكري، ولكنها نزعت اسمي وأصبح مقالًا مجهولًا كاتبه).
كان التجار يُهرّبون في الليل كل ما نحتاج لنحيا، بالتعاون مع العسكر المحاصرين لنا. وكان بعض التجار ينزع لب أقراص الروتي ويحشونها بالريالات الماريا تريزا التي لم نكن نحتاجها وقتذاك، ولكنها كانت الزاد لكبار الطلبة في رحلتهم إلى عدن وغيرها.
عشنا خلال الإضراب الذي كان يسميه البعض "انضراب"، حياة مختلفة اختفى فيها الجوع والعطش، وسادها التآلف والإيثار. وكان الطالب المرحوم علي محمد مصلح يمر على غرف القسم الداخلي كل ليلة، متأبطًا كتاب "العقد الاجتماعي" لجان جاك روسو، أحد فلاسفة التنوير الأوروبي، لينصح الطلاب بالتقشف، مرددًا الحديث النبوي: "نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع".
لم يدم بقاؤنا خارج المدرسة فترة طويلة، فقد أمر الإمام أحمد بفتح المدرسة والقسم الداخلي، ولم يمس أي طالب عند عودتنا بمن فينا من ذهبوا إلى عدن، بأذى. وكل ما حدث أننا حذرنا من مدير المدرسة الفلسطيني عبدالرؤوف نجم الدين، بـ"تجنب سماع الراديو وقراءة الصحف"، وتلك كانت التعليمات التي أمِر بنقلها.
الكبسي ومرغم ليلة الثورة
لم نطع مديرنا العظيم الذي تفاءل بعد الثورة بقدرة اليمن خلال عشر سنوات على صناعة الإبرة حتى الصاروخ، بالابتعاد عن الراديو، أما الصحف -وقد قصد بها الصحف المصرية- فلم تكن متوفرة، وكان المتوفر مجلات مصرية في مكتبة يديرها سعيد الحكيمي في ما سمي شارع ٢٦ سبتمبر بعد الثورة. أما الراديو فكان بعضنا يذهب إلى مبنى طيني صغير بجوار المدرسة، مكون من غرفة واحدة واسعة بها مصطبة هي سرير الأستاذ سعيد الوصابي الذي كان يعاني من الشلل، ويقوم بتدريس طلاب من خارج القسم الداخلي، دروسًا خصوصية. كنا نذهب عصر كل جمعة لسماع د. البيضاني الذي فرض على الحركة الوطنية وثورة سبتمبر، والذي يقول عنه جوناثان ووكر بأنه هندي الأب مصري الأم، في كتابه "تمرد عدن Aden Insurgency" صفحة ٤٩. أما المرحوم محمد الفسيل فقال عنه في مذكراته "الحياة التي عشت: حكايتي مع تحولات الفكر والسياسة في اليمن"، بأنه "كوهين اليمن".
في ليلة ٢٥ سبتمبر، طلب الكبسي ومرغم من الوصابي النوم عنده لسماع إذاعة صنعاء صباح الخميس. رحب الوصابي بهما بعد قوله إن الإذاعة لا تبدأ إرسالها إلا بعد العصر، ولكنهما أكدا له أنها ستبث يوم غد في الصباح، ونبهاه إلى الحرص على عدم إفشاء ما سمع لأي كان.
تجند الكبسي ومرغم بعد الثورة مباشرة، في الحرس الوطني، مع عشرات من الطلاب الكبار، للدفاع عن الثورة، وقد استشهد منهم حمود النّمِر وأحمد العماد وأحمد حمود شحطرة. ولأن الكبسي ومرغم كانا في الصف الخامس ثانوي، فقد عملا بعد التدريب العسكري، ومشاركة قصيرة في الحرب الدفاعية ضد من توهموا أنهم قادرون على إسقاط الجمهورية، مع خبراء عسكريين سوفييت، وبعد ذلك ذهبا إلى القاهرة وبغداد، لإكمال الدراسة الثانوية، ثم الالتحاق بالدراسة الجامعية فيهما.
صدم الكبسي بهزيمة يونيو ٦٧، وكان من الأوائل الذين علموا بها قبل أن يعلن عنها الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، عند زيارته للزميل حسن شكري الذي كان يتابع سير العدوان الثلاثي الثاني الإسرائيلي -الأمريكي -البريطاني على مصر، من إذاعة لندن.
استشهاد الكبسي
كان الكبسي شعلة نشاط، وقد سكن في شارع لاظو غلي في المنيل، وكان كثير التردد على شقتنا، وقبل مغادرته كنت أسأله: إلى أين أنت ذاهب يا إسماعيل؟ ويرد: لكسب أعضاء جدد للحزب (الديمقراطي)، أو أنا ذاهب إلى الطلبة اليمنيين في الأزهر، لكسب بعضهم، وأظن أنه هو من كسب عبدالرزاق الرقيحي وثابت الغياثي وحسن اللوزي وعباس مرغم.
كان الكبسي من القلائل الذين ثابروا على قراءة الفكر الاشتراكي، وقبلوا التحول إلى اليسار عن فهم وقناعة.
وفي عام ١٩٦٩ عقد في صنعاء مؤتمر لروابط الطلبة اليمنيين خارج اليمن، لتكوين اتحاد طلابي عام، وذهب الكبسي ممثلًا لرابطة الطلاب اليمنيين بالقاهرة التي كانت تدار بقيادة طلابية من فرع حركة القوميين العرب بمصر، ومن قيادة منتخبة مشتركة من الحزب الديمقراطي والجبهة القومية بعد استقلال الجنوب، حتى عام ١٩٧٠. عند عودة الكبسي من صنعاء إلى القاهرة، منع في المطار من الدخول، رغم أنه طالب في السنة الثالثة حقوق بجامعة القاهرة، بفعل وشاية سياسية حقيرة منعته من مواصلة الدراسة، وغيرت مجرى حياته.
واصل إسماعيل الذي كان يكره الفراغ، نضاله مقاتلًا في صفوف الجبهة الوطنية، وقد خاض عدة معارك في أكثر من جبهة حتى استشهد عام ١٩٧٣.
بين الحين والآخر كان يأتي إلى صنعاء مخفيًا وجهه بالكامل، وقد أقام لأيام في بيت صغير تشاركت فيه مع الدكتور علي محمد زيد، قبل زواجي، ثم أقام عندي لفترات قصيرة في حارة معمّر، بعد زواجي، عام ١٩٧١، وكان شديد الحرص على عدم التدخين بوجود ابني البكر الطفل غسان.
احتفظ الكبسي بمعنوياته العالية، ولم يظهر أي تبرم لحرمانه من الدراسة الجامعية، ولم يشكُ إلا من تزمت أسرته في الكبس، خولان، التي وقعت ضحية دعايات السلطة والمسجد بأن عناصر الجبهة الوطنية كفار، ولم تشاركه قناعاته الفكرية ونضاله مع الجبهة، واعتبرته كافرًا، وكان الاستثناء أخوه الصغير محمد الذي كان يعمل مع الصينيين في مشروع تعبيد طريق صنعاء -صعدة.
كُرِّم إسماعيل الكبسي، عضو اللجنة المركزية للحزب الديمقراطي، بعد استشهاده، من قبل نظام الجبهة القومية في الجنوب، بتسمية مدرسة ومعسكر باسمه في الضالع. أما في الشمال الذي لم يذق فيه طعم الاستقرار، فيخلط البعض بينه وبين أكثر من إسماعيل كبسي، وأحيانًا يظن البعض أن المعسكر والمدرسة سميا تكريمًا للشهيد أحمد الكبسي، أحد الشهداء الضباط في الستينيات، من حركة القوميين العرب.
تزوج إسماعيل من أخت رفيقيه أحمد ويحيى منصور أبو أصبع، ولم يرزقا بأنجال. أما رفيقه مرغم فقد واصل نشاطه الحزبي بصنعاء بعد تخرجه، وكان مسؤولًا عن أكثر من خلية طلابية، وقد رُشح لمنصب وكيل في وزارة المالية، ولكن اعترض على تعيينه أحد أركان النظام لسبب لم يتصور أحد أنه سيصبح خبزًا يوميًا لتغطية جرائم وفساد واغتيالات وتفريط بثورتي سبتمبر وأكتوبر وبالوحدة في ثلث القرن اليمني الدموي والعصبوي الأسود.