بداية، لا بد من التأكيد أن ثورة 26 سبتمبر المجيدة، لم تكن ثورة عسكرية مسلحة (Revolt Armed)، حتى ولو أن من قاموا بها ضباط عسكريون.
كذلك، لم تكن مُنظمة ثورية (Revolutionary Organization)، بحيث تخص مجموعة محددة من الناس ممن تجمعهم منظمة مُعَينة.
كما لم تكن مجرد هياج أو هواية ثورية مفاجئة (Revolutionary Agitation)، إذ لم تكن ثورة مُفَاجِئة خاصة لمن قاموا بها والمعنيين بها، أو تفكير الساعة دون تمهيد ودراسة من كل الجوانب (استخدمت بعض المفردات الإنجليزية هنا من باب تأكيد المؤكد، ولأن المفردات العربية تحمل أكثر من معنى).
أقول لم تكن كما ذكرتُ آنفًا، وإنما هي ثورة سياسية وثقافية واقتصادية واجتماعية شاملة، وإن جاءت كحركة سياسية ذات طابع سياسي ثوري، وكان الوقت مناسبًا لها تمامًا، فقد جاءت في الوقت المناسب من كل الأوجه (Right The moment)، للتطلع إلى حياة جديدة للشعب اليمني، من خلال تحقيق الحرية والمُسَاواة وتكافؤ الفرص بين كل اليمنيين دون تمييز ولا اصطفاء، كون التمايز والاصطفاء محصورًا بالله وحده، بجانب إيمانها بكافة حقوقهم، بما في ذلك كرامتهم ومكانهم ومكانتهم، وتوفير أبسط الضروريات والتحسينات والكماليات، وتلك وغيرها قد جاءت، وإن بصيغ شبه مختلفة، في أهداف الثورة الستة.
والسؤال هنا: لماذا ثورة السادس والعشرون من سبتمبر الخالدة؟!
لقد أراد الآباء الثوار في بداية الأمر إصلاح النظام الإمامي (العَفِن!)، إذ كانوا يعرفون صعوبة نجاح ثورة في ظل وجود شعب لاتزال الأُمية تزيد على نسبة 90% من سكانه، ويعيش في تخلف من كل الجوانب، ثم -وهو الأهم- كانت المنطقة كلها تعيش في كنف أنظمة ملكية، يصعب -إن لم يستحل- قبولها بِنظام جمهوري على مَقرُبة منها! ومن مفهومهم هذا جاء انقلاب أو ثورة عام 1948م! وسموها ثورة دستورية، إذ قامت على أُسس وأنظمة ولوائح ثورية وشِبه عصرية! لكن حجم التخلف في الشعب وحجم الأُمية فيه، بخاصة لدى القبائل المحيطة بالعاصمة صنعاء، ناهيك عن غباء الإمام الجديد! أجهض الحركة، بل أدى فشلها إلى إعدام خيرة رجال اليمن حينها وثوارها، ولم يسلم إلا القلة منهم.
كان الشهيد محمد محمود الزبيري، وقبل مقتل الإمام يحيى الذي سجنه بصنعاء، استطاع بعد الإفراج عنه الهروب إلى تعز، حيث كان الإمام أحمد حاكمًا لها.. وكانت آمال الزبيري والنعمان وغيرهما في الإمام أحمد، كبيرة، في إصلاح النظام، وتوفير أبسط الضروريات الممكنة للشعب، أسوة بالنظام الملكي السعودي الجار لليمن، والذي قال في قصيدة له بآل حميد الدين، وهو يقصد بابن سعود، الملك عبدالعزيز رحمه الله:
"ما كان ضرَّهمُ وهم من هاشمٍ
لو أنهم كابن السُّعُودِ كرامُ؟!"
لذلك، فقد كان يتسم بحاكم تعز حينها الإمام أحمد خيرًا، وإلى درجة أنه مدحه ببعض قصائد هي من عيون الشعر العربي، إذ يخاطبه في إحداها بقوله:
"إليك وإلا يا تُرى أين نذهبُ
فلم يبق إلا أنت في الأرض كوكبُ
لئن ضاق وجه الأرض وانسد أُفقها
ففيك لنا صدرٌ من الأرض أرحبُ
وإن أجدبت سُحْبُ السماء وأقحلت
فأنت سماءٌ ما رأيناها تجدبُ"
كما مدحه في قصيدة أُخرى يقول فيها:
"طِرْ حيثُ شِئتَ بنا فإنا مَعشرٌ
سنطير إثرك في العُلَا ونُحلِّقُ"
هكذا كان الزبيري هو ورفيق نضاله، أحمد محمد نعمان، ورفاقهما، يظنون خيرًا في الإمام أحمد، بخاصة بعد أن حول مقامه في تعز إلى شبه مُنتدى للأُدباء والشعراء ولغيرهم حينها! كما قرأنا!
ولكن، لأن الطبع غلب التَّطبُّع، والتعامي والمذهبية المُقيتة، وعدم قدرة الأُسرة "الحميدية" على بناء دولة ونظام أو عدم رَغبتها! سواء أيام الإمام "يحيى" أو أيام ابنه "أحمد"، بل عدم الاستفادة من المُستشارين الذين كانوا يصطدمون بتعنت الإمام يحيى بمعظم ما كانوا يرفعون له من آراء ممن ظلوا بصنعاء، أمثال راغِب بك وغيره، كما قرأنا، وذلك عكس الملك عبدالعزيز آل سعود، الذي استعان بعدة مستشارين سعوديين وغير سعوديين، بخاصة في الجوانب السياسية والدبلوماسية، أمثال: "فؤاد حمزة، ويوسف ياسين، وحافظ وهبة، وخير الله الزركلي" وغيرهم، وهذا حسب ما قرأتُ.
لذلك، فقد تفاجأ النعمان والزبيري والفُسيل وغيرهم بمقولة لصديقهم الإمام أحمد هي بمثابة إنذار شديد اللهجة لهم، ولو بصورة غير مباشرة، ونقلها لهم بعض المحبين يومها، حيث قال الإمام أحمد: "والله لأُخَضِبَنَّ يدي بدماء العصريين، حتى ألقى الله وهو راضٍ عني" أو كما قال..!
وهو يقصد بالعصريين الزبيري والنعمان والفُسيل وغيرهم ممن كانوا يتناقشون في ما بينهم نقاشًا فكريًا، نقله عنهم أحد الأمراض حينها إلى إمامه، مما دفع ذلك القول قيام الزبيري والنعمان بالهروب وبِخُفية إلى عدن، وليكون ذلك الهروب والوصول إلى عدن بداية لانطلاق حركة الأحرار اليمنيين يومها.. وعاد الزبيري الذي ابتلاه الله أو أحبه بموهبة شعرية استثنائية، ينشد قصائد ضد الأُسرة الهاشمية المتوكلية، ومما قاله في صديقه القديم الإمام أحمد بعد أن كشف هو ورفاقه حقيقته من قصيدة (لاذِعة):
"كنا نراك أبًا بَرًا وَمُذ لَمَعت
سيوفك البيض رَدَّت ما زعمناه!"
معتبرًا كل قصائده التي مدح بها الإمام يحيى وابنه أحمد بكونها: "وثنيات"!
إن ما سبق ذكره يؤكد لكل ذي لُب أن الإمامة في حكمها لليمن، لم تظهر من خلال نظام قادر على بناء دولة كما هو شأن البُلدان الملكية والأنظمة المُشابهة الأُخرى حينها، بقدر ما ظهرت باعتبارها امتدادًا للأئمة السابقين لها بكونها إمامة مذهبية، مناطقية، ظلت أكثر من ألف عام وحتى يوم السادس والعشرين من سبتمبر الخالدة من عام 1962م، حريصة على القَدَاسة والتأليه بصفتها حاكمة لليمن أرضًا وشعبًا وبأوامر إلهية لا يسأل حكامها عما يفعلون، بينما اليمنيون فقط هم من يُسألون!
وبدأ التفكير الجدي للأحرار بأهمية قيام نظام جمهوري عادل، وبصورة ضئيلة، حتى قامت ثورة 23 يوليو المصرية، لتصبح قناعتهم بقيام نظام جمهوري حتمي ارتكز على أهداف ستة أهمها الهدف الأول الذي يتضمن التحرر من الاستبداد (في الشمال) والاستعمار (في الجنوب)، وإقامة حكم جمهوري عادل، و"إزالة الفوارق والامتيازات بين الطبقات"، والهدف الثالث الذي أشار إلى "رفع مستوى الشعب اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا وثقافيًا"، وحينما يتحقق الهدف الأول، فإن الهدف الثاني لا بد أن يتحقق تباعًا لذلك، فالأهداف الستة كلها مهمة، وإنما ذكرتُ نص الهدفين الأول والثالث لأهميتهما حسب فهمي.
ورغم ما حدثت من انتكاسات وبعض الحروب الأهلية بخاصة بعد قيام الثورة مباشرة، ولأسباب تحتاج لسردٍ خاص بها، وأهمها استمرار الغباء المفرط لقبائل الطوق، إلا أن ذلك لا يُقلل من أهمية وعظمة وسمو ونبل ثورة السادس والعشرين من سبتمبر الخالدة، ويكفي أن لها دورًا غير مُباشر في تولي الملك فيصل بن عبدالعزيز للسلطة بالمملكة العربية السعودية، لوقف الترف المالي غير المبرر، ولتنتقل السعودية في عهده إلى انطلاق وتطور اقتصادي وتنموي واستقرار سياسي، والقيام بدور كبير إقليميًا وعربيًا وإسلاميًا ودوليًا.. كذلك كان للثورة أيضًا دور غير مُباشِر في استقلال دول الخليج العربي، وهو دور -كما قلت- غير مباشر، لكنه كان الدافع لذلك، بخاصة بعد التواجد العسكري المصري في اليمن، والذي لولاه بعد الله لما صَمَدت الثورة وانتصرت، ودون أن يُقلل هذا من الدور اليمني العسكري والشعبي في حماية الثورة، وهو ما تجلى أثناء حصار السبعين يومًا للعاصمة صنعاء (المحتلة حاليًا)، بل إن استقلال الشطر الجنوبي من الوطن بدأت أُولى خطواته في الكفاح ضد الاستعمار البريطاني يوم الرابع عشر من أكتوبر 1963م من جبال ردفان، والفضل لله ثم لثورة 26 سبتمبر نفسها، وبصورة مباشرة مساندة وتسليحًا وإشرافًا وتدريبًا، مما يؤكد واحدية الثورتين (سبتمبر وأكتوبر) دومًا مهما حاول المموهون والخادعون اليوم أن ينفوا ذلك.
وإذا كان الهدف الرابع من أهداف الثورة الستة، والخاص بـ"إنشاء مجتمع ديمقراطي تعاوني عادل مُستمد أنظمته من روح الإسلام الحنيف"، لم يتحقق كاملًا، وإن تحقق جزء منه، وهو التعاون الشعبي في مجال التنمية، بخاصة أيام الشهيد الراحل إبراهيم محمد الحمدي، رحمه الله، فإن عدم تحقيق الديمقراطية السياسية كما يجب إنما يرجع السبب -حسب فهمي- إلى عدم وجود ظروف ومناخات مُلائمة، وفي مقدمتها ثقافة الشعب وإدراكه لمسؤوليته الخاصة والعامة بسبب حجم تركة التخلف وعدم وحدة الهدف بين اليمنيين وفقدان الانسجام والتوافق في ما بينهم إلا ما ندر، ولأسباب يمنية وإقليمية ودولية! وكل هذا لا يُقلل من أهمية ثورة السادس والعشرين من سبتمبر!
لذلك، فإن الرد على سؤال عنوان هذه الأحرف أن ثورة 26 سبتمبر 1962م لم تأتِ ضد الأُسرة الحاكمة حينها كأشخاص، ولا ضد أنظمة ملكية أو إماراتية أو سلطنات، بقدر ما جاءت من أجل إخراج الشعب اليمني من وَحل الجهل والجوع والمرض والتخلف بأبشع صُورة، ووضع حد للإمامة المذهبية والمناطقية والقَدَاسة والتأليه واحتكار السلطة والزعم أنهم يحكمون اليمن بأوامر الله!
وبالطبع، تحقق بعض ذلك، ولم يتحقق البعض الآخر كما قد أشرت، بسبب استمرار التخلف الذي لولاه لَمَا استطاعت حِفنة ضئيلة قامت تُنفذ نفس توجهات ومهام آبائها الأئمة وتحتل العاصمة صنعاء بالذات! إضافة إلى وقوف بعض الدول الغربية بحكم أنها "أقلية" كما تزعم تلك الدول! ووقوف ومساندة إيران الفارسية من منطلق مذهبي (شيعي)، والتطلع للاستيلاء على أرض الحرمين الشريفين عبر اليمن رغم استحالة ذلك ولو بعد ألف عام!
ورغم قيام المليشيات الحوثية بإعادة ممارسة الجرائم الوحشية والكارثية، وإعادة نشر الجهل والتجهيل والأمراض المُعدية، وإثارة المناطقية والمذهبية والطائفية، وتجريف النسيج الاجتماعي، والتمسك بالديكتاتورية والسلطة المطلقة وغيرها من الموبقات التي وَجدت بسبب التخلف بعض المساندة، إلا أن السواد الأعظم من الشعب اليمني، بمن فيهم من انخدعوا بها عند البداية، باتوا ضدها عرضًا وجوهرًا، وأصبح التمسك بثورة السادس والعشرين من سبتمبر الخالدة بصورة غير مسبوقة، وما يحدث مؤخرًا في المناطق التي لاتزال محتلة حوثيًا -إيرانيًا- بين هذه المليشيات العفنة وبين بعض "علية القوم" ورجال السياسة والفكر والصحافة، ممن يُصرون ولايزالون على رفع أعلام الوطن اليمني المُوحد، والترحيب بالذكرى الثانية والستين لثورة السادس والعشرين من سبتمبر الخالدة، رغم ما يُواجهون من اضطهاد وسجنهم، والذي حتى لو قدرت المليشيات على سجن هؤلاء الثوار، فإنه يستحيل عليها سجن الثورة!
أقول.. إنما يؤكد ذلك أن 95% من أبناء الشعب اليمني كارهون لهذه المليشيات، التي من شدة حقدها على اليمن وثورته، اختارت نفس شهر سبتمبر لانقلابها المشؤوم، والذي لا بد أن ينتهي إن عاجلًا أو آجلًا، مهما بالغت بالعنف، وحولت كل مؤسسات ومقرات الدولة المسروقة عبرها إلى سجون!
لذلك فإن ثورة السادس والعشرين من سبتمبر المجيدة، لم تكن ثورة عسكرية مسلحة كما قد أشرتُ إلى ذلك في بداية هذه الأحرف، كما لم تكن مُنظمة ثورية، ولا مجرد هياج ثوري طارئ، وإنما بما مَثَّلت بأهدافها ثورة "إنقاذ" للشعب اليمني، ونقله من القرن العاشر إلى القرن العشرين، وهو ما تحقق على أرض الواقع في مثل هذا اليوم الخالد من عام 1962م، رغم كل العقبات والمشاكل والمحن التي واجهتها هذه الثورة ولاتزال. وليظل يوم السادس والعشرين من سبتمبر، بمثابة عيد لكل يمني عاشق لوطنه ولمكانه ومكانته وكرامته، باعتباره عيد الأعياد، وأرفع قدرًا مما عَدَاه، وألطف ذكرًا، وأعظم نبلًا، وأشهر فضلًا.
ثم، أما بعد..
لقد حاولتُ جاهدًا استخدام العبارات والجُمل الملائمة واللائقة بالكتابة عن ثورة السادس والعشرين من سبتمبر العظيمة، لكنني وجدتُ القلم يُعاندني ربما لأول مرة، بسبب هول المناسَبَة والتأثير النفسي من خلال ذِكرها رغبة ورهبة..! لِيَحُول ذلك أمام ما كنتُ أتطلع إلى تسطيره كما يليق بهذه الثورة من كل الجوانب، ولمكانها ومكانتها في العقول والنفوس، مكتفيًا بما قد سطرتُه آنفًا، وإن لم آتِ فيه بجديد.
- تعز - في 26 سبتمبر 2024م