"كذا تلكين بالدنيا تردني الوفي عياب
والعايب وفي
ويبقى المعرفي منكور في عينيك
والمنكور يبقى معرفي
متى باتنصفي
عليا طالت المدة وهل الشهر وتناصف
إذا برقت في القبلة ترفع فوق يالطارف"
هذا بيت شعري من إحدى قصائد الشاعر الكبير الراحل حسين أبو بكر المحضار.
فمن يمعن النظر ويعطي هذا البيت شيئًا من تركيزه، سيعرف أن هذا البيت يحاكي واقعنا الحالي بكل تفاصيله.
فالحاصل اليوم في هذا الزمن الأغبر، وفي كثير من دروب الحياة، أننا نرى في يومياتنا أن الصادق والوفي صار عيابًا، حتى وإن أظهر وفاءه وإخلاصه في أكثر من مكان، فهو في نظر الكثير من حوله عياب.
أما العايب فهو الوفي والمخلص في هذا الزمن، وهو حديث الناس مع مدحهم وثنائهم له. ولكم أن تنظروا من حولكم لتعرفوا هذا الواقع المؤلم الذي صرنا فيه.
المحضار بعدما رأى هذا التقلب غير المتوقع، يعاود ويتساءل بحسرة، ويرسل تساؤله للمرة الثانية للدنيا، بقوله:
"متى باتنصفي؟".
فهو لا يريد أكثر من الإنصاف، وليس كما تحدث عنه من إجحاف ظالم مس الوفي، وأظهر العايب مكانه كبديل عنه، ويا له من بديل أتى في غير محله.
ثم يختم حديثه أن المدة طالت كثيرًا ولم يتم إنصاف الوفي: "عليا طالت المدة وهل الشهر وتناصف" إلى آخره.
غنائية المحضار هذه قد مر عليها من الزمن الشيء الكثير، فهي قد تكون تخطت العقود الأربعة، إلا أنه تتجلى فيها تنبؤات المحضار لما هو آتٍ، وحتى إن افترضنا أن المحضار أتى بها من واقعه المعاش في تلك الفترات البعيدة، وما كان يتعايش معه من واقع، فجاءت القصيدة تشرح ذلك الواقع بكل عناوينه وتفاصيله.
لكن علينا أن نعرف ونحن كذلك نعرف أن واقعنا فاق ما تم شرحه شعرًا من أبي محضار.
فالوفاء انعدم في زمننا هذا، وغاب أهله، ومن أمامنا من أهل الوفاء هم قليلون جدًا، فضاعوا مع قلتهم في بحر مع من تألم واشتكى منهم المحضار من أدعياء الوفاء في ذلك الزمن البعيد، أي العيابون، وما أكثرهم في هذا الزمن.
مدرسة المحضار الشعرية ستبقى غزيرة العطاء وكثيرة الفوائد، وهي -أي هذه المدرسة المحضارية- وجب علينا الاقتراب منها أكثر وأكثر، حتى نعرف كثيرًا من خفاياها، ونأخذ منها ما نحتاجها من الفوائد.
لا ننكر أن رحيل المحضار كان لنا خسارة كبيرة، خسارة لن تمحى من ذواكرنا ما حيينا، وأننا في أمس الحاجة لوجود المحضار في هذا الوقت العصيب الذي نمر به، إلا أن المحضار ترك لنا ما يغطي مساحة كبيرة من هذا الفقد، ففي شعره أشياء كثيرة لم نصل إليها بعد، ولم يقترب منها أحد منا بالبحث والتدقيق؛ حتى تخرج للناس، ويعرفوا بعض ما في شعر المحضار الذي لا يلاقي منهم إلا الإعجاب دون المعرفة الكاملة به كشعر يستحق البحث أكثر وأكثر.
رحم الله المحضار الرحمة الواسعة.