تمر الثورات بثلاث مراحل، المرحلة الأولى هي مرحلة التخطيط للثورة وإسقاط النظام القديم، والمرحلة الثانية هي مرحلة الدفاع عن الثورة، والمرحلة الثالثة هي مرحلة بناء النظام الجديد، وبمناسبة ذكرى ثورة 26 سبتمبر 1962، لنحاول تقييم أدوار القوى الاجتماعية وبعض الرموز الوطنية ومساهماتهم في الثورة، بعيداً عن لغة الخطابة، والرطانة، والفذلكة اللغوية.
1- مرحلة التخطيط للثورة وإسقاط النظام القديم: الذين خططوا لثورة 26 سبتمبر، هم الضباط الشباب أعضاء تنظيم الضباط الأحرار، بدعم من القيادة المصرية، وتولى هؤلاء الضباط الشباب خلع عائلة حميد الدين من السلطة، دون أن يشاركهم أحد في هذه المهمة، لا من كبار ضباط الجيش الإمامي، ولا من "أحرار 1948"، ولا من شيوخ القبائل أو شيوخ الإسلام السياسي.
2- مرحلة حماية الثورة: تولى مهمة حماية الثورة في أيامها وشهورها الأولى الضباط الشباب والجيش المصري الذي وصلت طلائعه إلى ميناء الحديدة يوم 28 سبتمبر، لكن الحماية المستدامة للثورة تتطلب إنجاز المبدأ الثاني من مبادئ الثورة، المتمثل في "بناء جيش وطني قوي لحراسة البلاد وحماية الثورة ومكتسباتها"، فشرع الضباط الشباب، وبدعم من القوات المصرية في بناء وحدات وتشكيلات عسكرية جديدة، منها لواء الوحدة، لواء العروبة، ولواء الثورة … إلخ.
خلال هذه المرحلة، ولأن أعمار الضباط. الأحرار جميعاً كانت في العشرينات وربما في الثلاثينات، ومراعاة لطبيعة التركيب الاجتماعي القبلي والأطر الثقافية التقليدية، احتاجوا لوضع بعض الرموز العسكرية والثقافية والاجتماعية من "أحرار 1948" وشيوخ القبائل، في مواقع صنع القرار، لإقناع الجماهير بأن الثورة من صنع الرموز الوطنية وليست صنع مجموعة من الشباب الطائشين، فشكلوا مجلس قيادة الثورة على رأسه الزعيم السلال والزعيم حمود الجائفي، ومجلس رئاسة مكون من 19 شخصاً، منهم: السلال، الإرياني، الزبيري، العمري، الجائفي وأخرون، ثم أسسوا في مطلع 1964 ما أسموه بالمكتب السياسي من تسعة أشخاص، هم: السلال، العمري، الإرياني، الزبيري، محمد أحمد نعمان، عبدالسلام صبره، محمد مطهر، عبدالقوي حاميم ومحمد علي عثمان. وبشكل عام وقف "أحرار 1948" وشيوخ القبائل ضد بناء جيش وطني، فنظموا مؤتمر عمران الذي تزعمه الزبيري والأحمر وطالبوا فيه "برفع القيادات العسكرية من المناطق التي لا توجد فيها حرب" و "تشكيل جيش شعبي (المقصود جيش قبلي) وقيادة شعبية (يقصدون قيادة شيوخ القبائل لهذا الجيش) من 28 ألفاً، يقوم بإغلاق الحدود وتصفية مناطق الحرب"، وعلى المستوى الواقعي شكل شيوخ القبائل مليشيات قبلية مسلحة، بستنزفون من خلالها ميزانية الدولة، عوض دعم الجيش الجمهوري.
وقد أثبتت معارك الدفاع عن الجمهورية وفك حصار السبعين يوم، أن المليشيات القبلية كانت عبارة عن فقاعات لم تشارك في أي معارك حقيقية، فيما نظم شباب الأحزاب اليسارية والقومية والشباب المستقلون أنفسهم في فرق "المقاومة الشعبية" لدعم الجيش في معركة الدفاع عن الجمهورية.
3- مرحلة بناء النظام الجديد: كان الضباط الأحرار ومعهم القوى الحديثة من الشباب المستقلون وشباب الأحزاب اليسارية والقومية يسعون، حسب البيان الأول للثورة، إلى "إنهاء الحكم الملكي، وإقامة حكم جمهوري ديمقراطي إسلامي أساسه العدالة الاجتماعية لدولة موحدة تمثل الشعب وتحقق المطالب السياسية العامة للجمهورية العربية اليمنية"، ولتحقيق هذا الهدف رفعوا شعار الجمهورية أو الموت، في مقابل ذلك، شكلت القوى التقليدية وعلى رأسها شيوخ القبائل وبعض المثقفين التقليديين من أحرار 1948 تياراً جمهورياً محافظاً، لا يحمل من الجمهورية سوى اسمها، سعى إلى بناء نظام تهيمن عليه أوليجاركية واسعة، تشمل إلى جانب بيت حميد الدين شيوخ القبائل والمثقفين التقليديين "القضاة" وأحرار 1948، ولتحقيق هذا الهدف نفذ التيار الجمهوري المحافظ لقاءات مع ممثلي النظام الملكي، منها لقاء "كَرِشْ"، ومؤتمر "أركويت" بالسودان، الذين رأس وفد الجمهوريين المحافظين فيهما محمد محمود الزبيري، وبعد وفاته التقى الجمهوريون المحافظون مع الملكيين في مؤتمر حرض، ثم في مؤتمر الطائف، وتمهيداً للمصالحة مع الملكيين قام الجمهوريون المحافظون بتصفية الجمهوريون التقدميون لاسيما من الضباط الشباب وقادة الأحزاب السياسية اليسارية والقومية وقادة المقاومة الشعبية، عن طريق الاغتيالات والاعتقالات والإخفاء القسري، وفي مارس 1970 تصالحوا مع الملكيين، وتقاسموا مقاعد المجلس الجمهوري والحكومة.
في يونيو 1974 قاد المقدم إبراهيم الحمدي حركة تصحيحية لاستعادة النظام الجمهوري الحقيقي، لكن حركته لم تعمر طويلاً، فاغتاله الجمهوريون المحافظون، ونصبوا أحمد حسين الغشمي رئيساً للجمهورية، وبعد اغتياله نصبوا علي عبدالله صالح، الذي نفذ مشروع التيار الجمهوري المحافظ لبناء دولة ذات نظام جمهوري مفرغ من مضامينه الحقيقية، تهيمن عليه أوليجاركية من شيوخ القبائل والضباط ذوي الرتب الفخرية وشيوخ الإسلام السياسي.
على الرغم من الأدوار الهامشية لرموز القوى التقليدية في مراحل الثورة الثلاث، إلا أن القوى التقليدية عملت على تضخيم أدوارهم، بل وتصنيمهم، لخدمة ادعائها بأن لها أدوار في ثورة 26 سبتمبر، وتهميش أدوار الأخرين، بل وطمسها أحياناً، فلا نكاد نسمع في وسائل إعلامهم ولا نقرأ في كتبهم عن جزيلان وعبدالرقيب عبدالوهاب وعلي مثنى جبران ومحمد مهيوب الوحش وعلي عبدربه القاضي وغيرهم من أبطال ثورة 26 سبتمبر الحقيقيون.