كيف تخلق الثقافات.. تُبنى وتخلد؟
وكيف من هذا الطين أصل عنان السماء؟ سألت نفسي حين كنت محض صغيرة مبهورة بحضارات الزجاج الشاهقة.
أطلقت اللجام عن السؤال.. أأسأل قريتي؟
قريتي منذ عرفتها وهي رائحة، ودائمًا ما أفكر في هذه الكلمة.. يُخيَّل إليَّ أن لها إيقاعًا في صدري.. أن تتطاول وتعلو مع الألف، ثم تتراجع مع الحاء، لتستكين تمامًا في هاء النهاية الساكن.
يبدو الأمر أشبه بتنهيدة بعد رحلة طويلة. ومعه أفكر أنها كلمة تختزل السيرة الذاتية الإنسانية بشمولية أكثر.. وإن أردنا وصفها بشكل أدق.. هي سيرة ذاتية لمدينة إنسانية.. حضرموت.
أعود للسؤال الآن وأنا فتاة كبيرة بهوية سمراء وشمس حادة ورائحة كثيفة:
كيف تخلق الثقافات تُبنى وتُخلد؟
صباحًا وكأنما لا يستسيغ الناس وداعة الشمس، تُوقد التناوير، لتتطاول النار الكثيفة في التنور.. تشق ضوء الصباح والمنطق، لتكون مسرحًا لعرض سيريالي يناطح فيه ضوء النار ضوء الصبح.. تمامًا كالتي تخبز.. أمي أو جدتي أو جارتي.
قد تأكل خبزًا في أي مكان.. لكن ليس كل خبز تحكي سيرته قصة امرأة ناطحت حياة ضخمة بيديها وأحكمت قبضتها عليها بأثر.. رائحة!
كيف تخلق الثقافات.. تبنى وتخلد؟
إن لهيب النار أكثر جموحًا من أن نصنع به خبزًا ناضجًا من الداخل، ونحتفظ باللون المحمر البهي للخبز في الآن ذاته.
لكن كهر القليل من الجمر في تنور خمد لهبه.. يتمتع بالعبقرية الكافية لصنع ما هو أكثر من خبز.. بل ذاكرة بنية تقلبت في أطوار النار، واحتفظت رغم ذلك ببهائها.. ذاكرة!
كيف تخلق الثقافات.. تُبنى وتخلد؟
تُخلق الحضارة في اللحظة التي تتوقف فيها عن التطاول، وتبدأ بالتعمق.. التبصر.. تحسس الروائح.. التقدير.. والحب!
اللحظة التي تتكاتف فيها السواعد لخلق معنى للحياة، لحبها كما هي بسمرتها وشمسها الحادة.
الحضارة هي اللحظة الباردة التي تلين فيها القلوب والوجوه بالحب والمتعة، رغم "كهر" الكدح.
هي لحظة من اللحظات الإعجازية التي تنسل فيها عن قالبك الشخصي، وتنذر نفسك للأرض والإنسان.. المدينة والرائحة، حينها تخلد الثقافة.