صنعاء 19C امطار خفيفة

الأمريكيون اليمنيون يضعون بصمتهم في نيويورك: من البقالات إلى المقاهي

2024-07-12
الأمريكيون اليمنيون يضعون بصمتهم في نيويورك: من البقالات إلى المقاهي
الأمريكيون اليمنيون يضعون بصمتهم في نيويورك: من البقالات إلى المقاهي

كتب: خليل بوعروج -  ترجمة خاصة للنداء ربيع ردمان

أقام الأمريكيون اليمنيون محلاتٍ تجاريةً في مدينة نيويورك. وقد رسّخ اليمنيون، المعروفون بروح المبادرة والترحيب الحار، أنفسهم في كل زاويةٍ من شوارع العاصمة الاقتصادية لأمريكا، مشكلين بذلك أساس تجمُّع الشتات المزدهر.

في 29 أبريل 2019 نشرتْ صحيفة نيويورك تايمز مقالاً بعنوان رئيسي "خلف طاولة البيع، قوة سياسية تعلن عن نفسها" يدور حول الأمريكيين اليمنيين الذين تمكَّنوا من إيصال أصواتهم واستخدموا نفوذهم الاقتصادي لمواجهة صحيفة "نيويورك بوست" التي يملكها الملياردير اليهودي روبرت مردوخ، وهي صحيفةٌ شعبية معادية للمسلمين والعرب. 

ما أوْقَعَ صحيفةَ نيويورك بوست في مأزق ذلك العام ما نشرتْه في صفحتها الأولى من تحريضٍ على المسلمين ضمن هجومها على إلهان عُمَر عضوة مجلس النواب الأمريكي المسلمة، ولم يكن هناك أيُّ سببٍ يدعو مالكي محلات بيع السِّلع من الأمريكيين اليمنيين إلى الاستمرار في تقديم الدعم لصحيفةٍ حاقدة.

الأمريكيون اليمنيون يضعون بصمتهم في نيويورك من البقالات إلى المقاهي

 

ذكرتْ صحيفةُ نيويورك تايمز أن "مالكي محلات البقالة اليمنيين الأمريكيين قد أعربوا عن خشيتهم من أن الصور الاستفزازية لاحتراق مركز التجارة العالمي التي أعادتْ الصحيفة نشرها قد تؤدي إلى اندلاع أعمال عنف ضد المسلمين في نيويورك". ولهذا، قاموا بتنظيم مقاطعة بيع الصحيفة في محلاتهم التي يتراوح عددها ما بين 4000 و6000 محل بقالة مملوكة للجالية اليمنية، وهذا العدد يمثل تقريباً نصف المتاجر الصغيرة في المدينة. 

لقد كان ذلك عملاً من أعمال الاحتجاج للدفاع عن جاليةٍ تشعر بالتَّوتر فعلياً في مواجهة سياسات ترامب المعادية للمسلمين، وفي عام 2017 أغلق كل أبناء الجالية محلاتهم حتى يتمكنوا من حضور احتجاج ضد مرسوم ترامب بحظر دخول المسلمين. 

يرمز كلا الإجراءين إلى الكيفية التي يتحرك بموجبها رجال الأعمال اليمنيون باعتبارهم أصبحوا جانباً حيوياً من المشهد العام للمدينة، وحالياً صار تنظيمهم يعمل بقيادة جمعية التجار الأمريكيين اليمنيين (YAMA)؛ وحسبما أفادت صحيفة التايمز "تنتشر محلات البقالة التي يملكها يمنيون في كلِّ حَيٍّ من أحياء نيويورك".

بدأ المهاجرون اليمنيون في التدفُّق إلى مدينة نيويورك في خمسينيات القرن العشرين حيث احترفوا بسرعة التجارة في المتاجر الصغيرة mini-marts، وهذا قطاع كان يُدِيْرُه اللاتينيون ويسيطرون عليه بصورةٍ أساسية (من هنا جاءت تسمية هذه المحلات بوديغا bodega).

وسرعان ما تحول شارع أتلانتيك Atlantic وشارع كورت Court في بروكلين Brooklyn إلى ما يشبه يَمَنَاً مُصَغَّراً. وعلى الرغم من أن ارتفاع أسعار العقارات في الآونة الأخيرة قد دفع معظمَ أصحاب الأعمال اليمنيين إلى الانتقال إلى أماكن أخرى، إلا أن تجارة البوديغا لا تزال راسخةً بقوةٍ داخل الجالية اليمنية.

يقوم المهاجرون الجدد بدايةً بتعلم هذه المهنة في محلات مواطنيهم ثم بعد ذلك يتجهون إلى افتتاح محلاتهم الخاصة؛ كما ينقل الآباء ملكية محلاتهم إلى أبنائهم. بل إن جزءاً صغيراً من اليمن المُصَغَّر لا يزال قائما في حَيٍّ جرى ترميمه بوسط البلد حيث يوجد مطعمان يمنيان في شارع أتلانتك. 

 

بيت القهوة في ويليامزبرغ

 

الجيل الجديد وثقافة القهوة

لم تعد محلات البقالة اليوم النشاط التجاري الوحيد الذي يمارسه أبناء الجالية اليمنية، فقد صار جلب حبوب البُنّ من الوطن الأُمّ ملمحاً مميزاً يطَّرد في أوساط الجيل الثاني من رجال الأعمال اليمنيين.

 حكيم سليماني هو واحدٌ من هذا الجيل الذي يمتهن تجارة القهوة. يملك سليماني مقهى يافع في ميدان سَاْنْسِت Sunset في بروكلين، ويحصل على حبوب البُنّ من جبال يافع اليمنية. وتذكَّر أنه عندما كان صبياً "شعر بحماسٍ شديد" حين علم أن أحد المشروبات الأكثر شعبية في العالم اخترع في موطنه. ولا يعد مقهى يافع الخيار الوحيد المتاح في المدينة.

فهناك "بيت القهوة" في حي ويليامزبرغ Williamsburg الذي يعد من الأحياء الحديثة في المدينة. أما في دِيْوَان كوبل هيل Cobble Hill، فيمكنك أن تجمع إلى جانب القهوة اليمنية زجاجة عسل يمني أصيل بقيمة 90 دولاراً. وفي حي باي ريدج Bay Ridge محل تجمُّع الجالية العربية في بروكلين، يُقدَّم العسلُ مضافاً إلى القهوة على شكل قرص عسل يمني مرسوم في الرغوة.

ينتمي معظم المالكين الجُدُد إلى شريحة الشباب الذين تبنوا فكرة "تسليط الضوء على اليمن" بعد بدء الحرب، وترى ديبي المُنْتَصر [معلمة وناشطة مجتمعية] أحد أعمدة الجالية المشاركين في تأسيس جميعة التجار اليمنيين الأمريكيين، أن "الطريقة الأمثل والأكثر تثقيفاً هي من خلال القهوة، إنها مساهمة حضارتنا التي يعود تأريخها إلى مئات السنين". 

إن جَلْب حبوب البُن من اليمن عملية صعبة ومعقدة، وإذا صرفنا النظر عن العنف وعدم الاستقرار الناجم عن الحرب الأهلية هناك، فإن أي واردات قادمة إلى الولايات المتحدة من اليمن تخضع لفحصٍ وتدقيق صارمين. 

ولكن بالنسبة لأولئك الذين نجحوا في ذلك، فالمسألة هي أكثر من مجرد إطلاق مشروع تجاري؛ إنها أشبه بحفلة تخرُّج اقتضت وقتاً طويلاً من الإعداد. لقد نشأ الجيل الثاني من الأمريكيين اليمنيين في ظل أحداث 11 سبتمبر 2001 وانتشار جرائم الكراهية ضد المسلمين الأمريكيين. 

حين كان حكيم سليماني طفلاً، ألقى أحدهم طوبةً على نافذة منزلهم. ونُزِعَ حجاب أخته وتعرَّضتْ للصفع في مترو الأنفاق. وللحفاظ على سلامتهم، قام والداه بتصفيح باب المنزل الخارجي وعلقا الأعلام الأمريكية خارجه. هذه القصص وأشباهها ليست معروفةً، لكن حين يعمد المرء إلى إعادة سردها في إطار عرض ثقافته فإنه يوضح نسبة الناس الذين آثروا الصمود في مواجهة التمييز. وقد حَرِصَ كلّ من سليماني ووالده على حضور الاحتجاج ضد حظر دخول المسلمين أمريكا، غير أن الجيل الأصغر سناً يتخطى السياسة إلى إعادة تشكيل التصورات ... فنجان قهوة في كل مرة.

 

رواية راهب المخا.jpg

 

 لا شك أن تجارة القهوة الجديدة قد اكتسبتْ حضوراً لافتاً في مشهد المدينة لتتحول إلى موضوع رواية "سيرة غيرية" صدرتْ عام 2018 تحت عنوان "راهب المَخَا" للروائي الأمريكي الشهير ديف إيغرز Dave Eggers. تسرد الرواية قصة كفاح مختار الخنشلي، وهو ابن لمهاجرين يمنيين يقيمان في سان فرانسيسكو عَاشَ طفولةً عاثرةَ الحظ متنقلاً بين مهنٍ عديدة ثم سافر إلى اليمن للقاء مزارعي البُنّ الذين أصبحوا موردين لحساب الشركة التي أسّسها تحت اسم "ميناء المخا".

 

ميراث حَيّ لا بد من تنميته

في عام 2022، عمل مختار الخنشلي على إطلاق المزاد الوطني للبُنّ اليمني لتغدو أبوابه مشرعةً على المَحَامِص من جميع أنحاء العالم. ومع ذلك، يظل الخنشلي شخصيةً مثيرة للجدل بين أبناء الجالية وقد اتهمه بعض اليمنيين بأخذ أموالهم ثم قام بعد ذلك باستبعادهم من المؤسسة التي أنشأها. 

بطبيعة الحال، من المألوف إلى حد ما أن يعمد العديد من العرب الأمريكيين الباحثين عن ارتباط أكثر بجذورهم إلى اختيار القهوة.

اكتُشفتْ القهوة واستُخدمت بدايةً داخل الأربطة الصوفية اليمنية في القرن الخامس عشر (جُلِبتْ حبوب البُنّ من المرتفعات الأثيوبية)، ومن اليمن انتشرتْ إلى بقية الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وشقت طريقها في النهاية إلى أوروبا لتغدو القهوةُ العربية قهوةً إنجليزية. 

لقد كانت تجارة البُنّ مصدرَ ثَرَاءٍ اليمن إلى أن قام الأوربيون بزراعة شجرة البن في أماكن أخرى وبتوظيف الأيدي العاملة المُسْتَغلة والعبيد عملوا على إنتاج بُنّ رخيص الثمن، وهو ما أدى إلى كَسَاد تجارة البُنّ اليمنية، فلم يأتِ عام 1800 حتى صارتْ نسبة البُنّ اليمني المستهلك عالمياً لا يتجاوز 10%. 

إن قيام الجيل الجديد بإرهاف ذاكرة الأمريكيين عبر إحياء القهوة القادمة من اليمن لإشباع رغباتهم يعني أن هذا الجيل قد تغيّر تغيراً كلياً عن سلفه السابق من المهاجرين. 

  • صحفي عربي مقيم في واشنطن

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً