صنعاء 19C امطار خفيفة

المدينة تعرف بالوجه المفتوش: الخطاب البصري للاوجه - قراءة سيمائية

2024-07-06
المدينة تعرف بالوجه المفتوش: الخطاب البصري للاوجه - قراءة سيمائية
امراة من عزلة الأعبوس (منصات تواصل)

"الوجود هو الرؤية" بورخيس

**
تلازمني لغة الوجوه، وتأسرني منذ طفولتي، عندما بدأت أحدق في معنى الوجه وتقاطيعه، وخصوصًا العيون والنظرات: الرؤية/ الوجود، كما قالها الكاتب الأرجنتيني بورخيس، وبجانبها الملبس والألوان والزركشات، والتفاصيل الصغيرة التي تأسرني دومًا.
 
في صغري تفتق إدراكي البصري على الوجوه المفتوحة، من بيتنا وشارعنا، الذي كان سوقًا "سوق الصميل" بحوض الأشرف. وجوه لمئات النساء البائعات والمشتريات والمارات يوميًا، بمن في ذلك الطفلات، وهن يرفلن بوجوه مفتوحة، بشعرهن وقباضاتهن أو أمصارهن الملونة وزننهن المكشكشة، تلك الكشكشات ليست فقط من سمات الطفولة، بل من سمات النساء بالمجمل، بما فيها حبكات الزنن والقمصان، والسراويل و"التراجيل" المختلفة، كان حوض الأشرف كرنفالًا يوميًا يمتد من الفجرية حتى العصرية، تحقق الوجود/ الرؤية في المكان والزمان.. ياااالله.
 
2
امراة في الريف،١٩٩٨(الصورة من إرشيف الكاتبة)

في الثمانينيات وأعوام الدراسة في جامعة صنعاء، ومع نزولي المتكرر إلى تعز، رأيت الحوض يبهت شيئا فشيئًا، الصورة رمادية، وفي كل سفرة تتقشر الصورة، تكفهر، تختفي ملامحها، إلى أن أظلمت، تكسرت الصورة، ليس فقط باندثار السوق، بل بابتلاع الوجه المفتوش وسيادة "اللارؤية"، ومعها كل كشكشات البهجة والحياة، خلا بعض الصبريات ونساء الحوبان.

في التسعينيات، تتبعت "الوجود/ الرؤية" أكان بالكاميرا الذهنية، أو بالكاميرا المادية، بعد أن جبت بعض المناطق والأرياف اليمنية، وفي عقلي سيحضر ما تتبعته، لكن كان الريف أيضًا يبتلع الصورة، وتحضرني حكاية "الجرجوف"، و"عرف عرماني باقرطه على ضرسي وأسناني"، إنها أيديولوجية الإسلام السياسي "الإخوان المسلمين" خصوصًا، الذي سال في كل الريف محرمًا "الوجود/ الرؤية" كخطيئة، وألا يحضر وجه مفتوش، وكشكشة ولون وزنة، ومهجل نسائي، في سماء البلاد، غدا الأسود الجلبابي يغرق القرية والمدينة معًا، في تناقض موجع بين طبيعة خلابة ملونة وكتل سوداء تعزق الأرض وترعى الحيوانات، وو... الخ.
نهاية التسعينيات، وحتى خروجي من اليمن، 2017، اعتكم واعتجم كل ناطق ومرئي، ما شاهدته لا يكفي كتاب أو ثلاثة لرسم وكتابة المشهد المركب والمعقد لنساء اليمن: الجسد، الوجه والعينين، والملبس، والتزين... الخ. كل ذلك الكرنفال المعبر عن كينونة المرأة اليمنية كحق طبيعي وجودي، ودستوري، فالحق في الوجود يعادل الحق في الرؤية -الفتشة. نعم الحق في الوجه المفتوش، الحق في "الذي خلقك، في صورة ما شاء ركبك"، كل تلك الحيوات حكم عليها بالشطب والإلغاء.
 
3
نساء يمنيات في إحدى اللقاءات الحزبية (منصات تواصل)

اليوم، وأنا أتأمل صور اليمنيات المصفدات بالأسود، وحتى العيون التي كنت تراها سابقًا في الجسد المصفد، قد مُحيت وبقوة مع الغزو الحوثي الأشد فتكًا بالنساء والحياة، تراودني نفسي بـ"هل أرجع وأقول سلام الله على الإصلاح والسلفيين؟"، لكن سرعان ما أتراجع، لا أريد أن أقولها، لأنهما أيضًا، كانا من ضمن فيالق صكوك وزبانية العورات، وتناسلها على نساء المجتمع اليمني حضرًا وريفًا، ومسرحيتهم الزائفة "عن أبو ذبابة قال..."، وفرجة منظومتهم المريضة "ما بين السرة والركبة"، كم كان أجدادنا محقين، وهم يخلفوننا ذاكرة الأمثال الشعبية، لفقهاء العورات، بوصفهم "فقيه القرية حمار إبليس، والفقهاء فئران الأرض ونسور الميت" وو... الخ!

4
 
مسلحة حوثية في قناة المسيرة

كانت العورة -الوجود -الرؤية ومازالت تتنقل وبكثافة أشد في الحرب، بحرية، في مؤسسات التعليم، خصوصًا المناهج التعليمية، من المعلامة والروضة إلى ما بعد الجامعة، وفي كل مؤسسات العمل، وفي الشارع والسوق والحياة برمتها، كل يطلق صواريخه من سكود والقاهر وتعاشير الله والقبيلة والنصر، منصات الذباب الناهش والفاتك الملغم والمتفجر لكل وجه مكشوف ومغاير للسائد، فمفهوم اللاذباب -أي الطاهر، والنوراني، هو وجه المرأة المتنقبة بالسواد، فرائحة ذباب جنة نسور الميت "إصلاح-حوثي" مسك الجنة، بل صك للجنة يخص فقط الفواطم الزينبيات والعائشيات والآيات... الخ من أمهات المؤمنين والصحابة الأشاوس (السنية والزيدية)، فالمغلق والمصفد، القطيع الأسود، الطهراني، وخلافه: الجنة، و الوجه المكشوف هو الذباب والنار والفضيحة والشيطان.

5

سؤال من أين أتت هذه الأغنية، وعشرات الأغاني التي تتغزل بالوجه: الوجود والرؤية؟

يا اخو القمر مابش قمر ملثم.. يا اخو القمر
 
مابش قمر مثلك رأيت تبسم.. على درر
 
ولا قمر مثلك كحيل أحوم.. أو فيه حور
 
لكن لماذا لك لثام حاجب.. هذا حرام
 
كلمات عبدالله هاشم الكبسي، وغناء الفنان العظيم محمد حمود الحارثي، رحمهما الله:
 
"مابش قمر ملثم، قمر تبسم، كحيل أحوم، وأخيرًا لثام حاجب: هذا حرام"، أبدع الشاعر الكبسي في وصف المشهد الطبيعي للنساء بوجه الرؤية -الوجود، ثم اللثام/ اللاوجود -اللارؤية.
 
القصيدة -الأغنية تحاكي زمنين فاصلين، الطبيعي القمر وابتسامة المحيا والكحل، ثم المصطنع، اللثام الحرام. كـ: هل نحن أمام أسطوانة "الزمن الجميل"؟
 
6
في 2024، بماذا أتسلح لقراءة وجوه نساء اليمن، المصفد دينيًا وثقافيًا وسياسيًا وقبليًا، ومليشياويًا، وليس بآخر الحروب المسفوحة بالمجان على اليمن أرضًا وإنسانًا؟
 
كيف أستطيع أن أقرأ اللحظات التعبيرية وانعكاس الروح في وجه النساء، لغة السعادة، الخوف، الفرح، الغضب، الابتسامة، الحزن، الأمل، أحوال الوجه بتفاصيله وتداخله. مثلما تقرأ وجه الرجال والأطفال والحيوانات والطبيعة، بما فيه ذباب مشايخ العورة؟!
 
أكرر السؤال مرة أخرى: كيف أقرأ هوية الشخص، بتفاصيله الإنسانية، أحوالها وأهوالها؟ كيف أدرك معنى الروح في هذا وذاك الوجه، وتحولاته الطبيعي
 
طيب، كيف أقرأ خطوط الكحل والوشم والهرد والنقش بالخضاب، كما كنا نرى جداتنا، حتى في صعدة عبدالملك الحوثي ومقبل الوادعي وتعز عبدالله العديني والظهبي، وزندان عبدالمجيد الزنداني، غيرهم من فئران الأرض ونسور الميت: مجاهدي العورات؟!
فكيف أتمثل آية "تعرفهم بسيماهم"، أو "سيماهم في وجوههم"؟ ما العلامة التي سأقرأها في الوجه والجسد المصفدين؟
 
أعتقد، حتى الذكاء الاصطناعي والعلوم ستعجز، وكذلك حقنا الجن والشياطين، سيفشلون في الوصول إلى مسام واحد للوجه، لتفكيك شفرته المعقدة خلف الحجب السوداء، كلهم سيرفعون الراية البيضاء قائلين: فشلنا!
 
وجوهنا -أجسادنا، ليست سوى طرابيل قاسية في كل الفصول، بما فيه فصل الصيف الكاوي وضنك انعدام الكهرباء، نعم، لسن سوى أكياس سوداء، ومعروفة وظيفتها، فحتى لو هللت جماعات التلثيم -العور من أن النقاب يصنع من المرأة، العورة كاريزما الفضيلة القرآنية! والحمد لله أني لحقتُ وجوه نساء بلادي المفتوشة.
 
قطف خبر:
 
الداعش واحد
 
كيف تشوفوووا؟!
 

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً