صنعاء 19C امطار خفيفة

يا قمري البان: ملمحٌ من عروض المحضار

يا قمري البان: ملمحٌ من عروض المحضار
حسين أبو بكر المحضار (ريشة رقمية النداء)

تنتظم نونية المحضار الرائعة "يا قمري البان" في أربعة أبياتٍ (أو فصول) متماثلة، يتألف كل بيت فيها من ستة أشطار (مسدوس)، نوردها هنا موزعة في ثلاثة أسطر شعرية؛ تعقبها اللازمة المتكررة آخر البيت، والمسماة في اصطلاح العرف الغنائي الحضرمي "الشَّلَّة، أو التخميسة" التي يختتم بها كل بيت، دون أن تحتسب من أجزائه الرئيسة.

فيتماثل السطران الأولان من البيت بأشطارهما الأربعة وزنًا وتوزيعًا قافويًا؛ بينما يخالفهما سطره الثالث الأخير بشطريه، متناغمًا أكثر في بنائه مع شلة المنظومة التي يتولى الكورال غناءها عادةً بعد المغني الرئيس، أو الحادي.

البيت:

أشكي لِمَنْ منَّكْ// ومن لي تفعلُهْ، أشكي لِمَنْ

كم صحتِ في أذنَكْ// وكم راسي توطَّى لكْ، وِدَنْ

ذَا الْحُبّ لُهْ أسلوب، لو تدري، وفَنْ// يعرفه كُلْ فَنَّانْ.

الشَّلَّة:

يا قُمرِيِ الْبَانِ، الْمولَّعْ ما سَكَنْ// يا قُمرِيِ الْبَانْ.

وإذا استهللنا تناولها عروضيًا بجملة الشلة "يا قُمرِيِ الْبَانِ، الْمولَّعْ ما سَكَنْ.. يا قُمرِيِ الْبَانْ"، نجدها في الحقيقة بيتًا من مجزوء بحر الرجَز المؤلف من أربع تفاعيل، اثنتين في كل شطر منه، مع استعمال الترفيل والتذييل في تفعيلته الأخيرة؛ على النحو التالي:

يا قُمرِيِ الْـ/ ـبَانِ الْمولْـ// ـلَعْ ما سَكَنْ/ يا قُمرِيِ الْبَانْ

مستفعلن/ مستفعلن// مستفعلن/ مستفعلاتان

لكن الوزن اللحني لهذه المنظومة المغناة وتوزيعها القافوي يفرض تقسيمًا مختلفًا لشطريه بحيث يتألف أولهما من ثلاث تفاعيل وثانيهما من تفعيلة واحدة:

يا قُمرِيِ الْـ/ ـبَانِ الْمولْـ/ ـلَعْ ما سَكَنْ// يا قُمرِيِ الْبَانْ

مستفعلن/ مستفعلن/ مستفعلن// مستفعلاتان

هذا التقسيم المغاير لمألوف البيت في مجزوء الرجز والمرتبط بالبناء القافوي واللحني الخاص بعموم المنظومة، يتبيَّن على نحو أكثر تعقيدًا في أبياتها الرئيسة التي يكفي تناول أحدها ليتضح لنا ذلك منسحباً على باقيها.

فبالنظر إلى البيت الأول منها، نجد كل سطرٍ من أسطره الثلاثة عبارة عن بيت من مجزوء الرجز أيضًا؛ لكن الثالث منها فقط هو الذي يتفق -باختلاف طفيف- مع الشلة في بنائها الموضح آنفًا:

ذَا الْحُبّ لُهْ أسلوب لو تدري وفَنْ.. يعرِفْه كُلْ فَنَّانْ

يا قُمرِيِ الْبَانِ، الْمولَّعْ ما سَكَنْ.. يا قُمرِيِ الْبَانْ

أما السطران الأولان، فرغم تناغم قافية الشطرين الثاني والرابع فيهما مع قافية الشطر الأول من السطر الثالث والشلة معًا، فإنهما يخالفانهما عامةً؛ ويختلفان عن مجزوء الرجز اختلافًا ظاهرًا يتضح معه التعقيد المشار إليه في بنائهما المميز.

فهما لا يكونان من الرجز ذاته، إلا إذا قرأناهما على النحو التالي:

أشكي لِمَنْ/ منَّكْ ومن// لي تفعلُهْ/ أشكي لِمَنْ

كم صحتِ في/ أذنَكْ وكم// راسي توطْ/ ـطَى لكْ وِدَنْ

مستفعلن/ مستفعلن//      مستفعلن/ مستفعلن

لكن قراءتهما على هذا النحو غير جائزة، لأن البناء القافوي والموسيقي لهذه المنظومة الشعرية/ اللحنية قد فرض على وزنها في السطرين الأولين من كل بيت توزيعًا مغايرًا أيضًا لتوزيع شطري الرجز المذكور. فهو يقطع التفعيلة الثانية فيهما من منتصفها بقافية الشطر الأول من كل سطر بحيث يخرجه من الرجز إلى بحرين مختلفين: أولهما يحيلنا إلى حالةٍ من وزن البسيط، والثاني إلى الوافر. فالفيصل هنا هو لحن الأغنية الذي يوجب قراءتهما على هذا النحو:

أشكي لِمَنْ منَّكْ// ومن لي تفعلُهْ أشكي لِمَنْ

كم صحتِ في أذنَكْ// وكم راسي توطَّى لكْ وِدَنْ

مستفعلن مستفـ// ـعلن مستفعلن مستفعلن

أو: مستفعلن فعْلن// مفاعيلن مفاعيلن فعو

 

فالشطر الأول في كلٍّ من هذين السطرين ثنائي التفعيلة مقفى بروي النون المفتوحة الموصولة بالكاف الساكنة بعدها (منَّكْ، أذنَكْ). أما الشطر الثاني فيهما، فثلاثي التفعيلة مقفى بالنون الساكنة بعد صحيح متحرك بالفتح (لمَنْ، ودَنْ). وبذلك فهو يهيئنا سماعًا وتطريبًا للسطر الثالث الأخير من البيت "ذَا الْحُبّ لُهْ أسلوب لو تدري وفَنْ// يعرِفْه كُلْ فَنَّانْ"، الذي ينعكس فيأتي شطره الأول ثلاثي التفعيلة مقفَّى بروي ذات النون (وفَنْ)؛ بينما لا يزيد شطره الثاني على تفعيلتين (مستفعلن فعلان). وهو مقفَّى برويِّ النون الساكنة لكن بعد ألف المد (فنَّانْ)، شأن قافية الشلة بعده.

هذا النسق النظمي المُحكَم البناء ذاته يتكرر، بطبيعة الحال، في جميع الأبيات السداسية الأشطر (المسدوس) في هذه المنظومة الشعرية واللحنية المطربة التي نستبين منها بعضًا من تقنيات النظم اللافت ورودها كثيرًا عند شاعرنا الملحِّن الكبير، مثل ترشيح القافية بين أشطر أبياته (منَّكْ/ لمَنْ؛ أذنَكْ/ ودَنْ؛ وفَنْ/ فنانْ. ظنَّكْ/ نِ ظَنْ؛ عنَّكْ/ لِ عَنْ؛ وَحَنْ/ أَحيانْ. حُسْـنَكْ/ حَسَنْ؛ جفنَكْ/ جَفَنْ؛ شَجَنْ/ أشجانْ. ذِهنَكْ/ ذَهَنْ؛ وَزْنَكْ/ وَزَنْ؛ بِشَنْ/ ضِي شَاْنْ). ناهيك عن سلاسة جملته الرائقة الطبع وعذوبة تدفقه الشعري الفريد صفاءً وجزالةً وإدهاشًا بعمقه الثقافي التاريخي، وتصرفه المنقطع النظير في أوزان الشعر، والذي لا يبلغ بظني مبلغه فيه أحد.

ومع إدراك أن المحضار لم يُلقِ بالًا قط لأوزان الخليل، فما تناولنا منظومته هذه وفقًا للعروض العربي (المنفِّر عامةً)، إلا لإلقاء ضوءٍ ما على مدى ما بلغ النظم الغنائي العريق من الرقي في حضرموت وعموم اليمن، هنا، وعبر ما نزمع التطرق إليه لاحقًا من منظومات غناء الأرض اليمنية، على تنوعها. كما نتوخى الإلماع، من جانب آخر، إلى الدور الفطري الخلاق الذي يضطلع به اللحن والشاعر الملحِّن في تطوير الأوزان الشعرية وابتكارها على نحو يُخرج النظم من قوالبها التقليدية إلى قوالب بالغة الجدة والأصالة، تعين على إنشائها موازين الألحان والغناء والإرث الحضاري واللُّغوي الشعبي الذي يتكئ عليه نظَّامو الشعر الملحَّن بوجه خاص.

أما الناحية المعنوية للمنظومة، في موازاة عروضها ختامًا، فنكتفي منها بما نجده في كل بيت من أبياتها السداسية الأشطر؛ وهو أن السطرين الأولين بأشطرهما الأربعة يختصان غالبًا بوضع فكرة البيت وبسطها تأسيسًا وبناءً؛ بينما يكملها السطر الثالث الأخير بشطريه وتقسيمه المغاير لهما متوِّجًا تلك الفكرة بوضع خاتمتها وإنهاء بناء البيت كله:

هل غاب عن ذهنَكْ// كلامي لكْ مِنِ الْعاذِلْ ذهَنْ

لي ما عرف وَزْنَكْ// ولي هُوْ في كلامُهْ ما وَزَنْ

ذَا الَّا يطبِّل لكْ وِيِفْقَع لكْ بِشَنْ// من أجلِ يقضي شَاْنْ

بعد ذلك يقفله الغناء بالشلة المتوافقة معه والمتكررة عقب كل بيت مسدوس من الأبيات الأربعة التي يشكل كلٌّ منها دورًا كاملًا من أدوار المنظومة/ الأغنية. وبذلك يتكامل البناء المعنوي والفكري لها مع بنائها الإيقاعي والنظمي في تناغم أخاذ ووحدة موضوعية وفنية فائقة السلاسة والإحكام، سواءً على مستوى البيت الواحد فيها أو على مستوى المنظومة ككل بأدوارها الأربعة التي يؤسس أحدها للاحقه في اتساق منطقي وإبداعي وتصاعد تطريبي رائق الطبع والصنعة الخالصَين من التصنع.

أشكي لِمَنْ منَّكْ// ومن لي تفعلُهْ، أشكي لِمَنْ

كم صحتِ في أذنَكْ// وكم راسي توطَّى لكْ، وِدَنْ

ذَا الْحُبّ لُهْ أسلوب لو تدري، وفَنْ// يعرفه كُلْ فَنَّانْ

يا قُمرِيِ الْبَانِ، الْمولَّعْ ما سَكَنْ// يا قُمرِيِ الْبَانْ!

**

ما خابِ فِيْ ظنَّكْ// لأني فيك عندي حُسْنِ ظَنْ

دايِمْ سَأَلْ عنَّكْ// وأَلْقَى في غيابَكْ كُلِّ عَنْ

وانتهْ تِدوِّرْ للمشقَّةْ وِالْوَحَنْ// في غالبِ الْأَحيانْ

يا قُمرِيِ الْبَانِ، الْمولَّعْ ما سَكَنْ// يا قُمرِيِ الْبَانْ!

**

يا من كملْ حُسْنَكْ// وفعلَكْ دُوبِ لي ما هو حَسَنْ

يا من غمضْ جفنَكْ// جفوني للكَرَى، بعدكْ، جَفَنْ

أمسي سمير النجم من طول الشَّجَنْ// وانته بلا أشجانْ

يا قُمرِيِ الْبَانِ، الْمولَّعْ ما سَكَنْ// يا قُمرِيِ الْبَانْ!

**

هل غاب عن ذهنَكْ// كلامي لكْ مِنِ الْعاذِلْ ذَهَنْ

لي ما عرفْ وَزْنَكْ// ولي هُوْ في كلامُهْ ما وَزَنْ

ذَا الَّا يطبِّلْ لكْ وِيِفْقَع لكْ بِشَنْ// من أجلِ يقضي شَاْنْ

يا قُمرِيِ الْبَانِ، الْمولَّعْ ما سَكَنْ// يا قُمرِيِ الْبَانْ!

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً